لقد أكثر ربّنا في القرآن من القصص تثبيتًا لقلب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وأمر رسوله أن يقصّ القصص ليتفكّر فيها المعرضون، علّهم يتوبون إلى ربّهم، ويعودون إلى رشدهم: {فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون}. قصص الأنبياء في القرآن كثيرة، وكلّ منها لها فوائدها وأحكامها، فمِن الأنبياء مَن أوذي، ومنهم مَن قُتِل، ومنهم مَن آمن به قومه في آخر الأمر، ومنهم مَن لم يؤمن به أحد: ”عُرضَت عليَّ الأمم فرأيتُ النّبيّ ومعه الرّهط، والنّبيّ ومعه الرّجل والرّجلان، والنّبيّ وليس معه أحد”. وأوّل رسول أرسله اللّه إلى أهل الأرض نبيُّ اللّه نوح عليه السّلام، لقيَ من الأذى من قومه ما لقيَ، فصبر صبرًا عظيمًا، يَدعو قومه ليخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور، ومن النّار إلى الجنّة، فلم يَلْقَ مُجيبًا، بل لقيَ سخرية وتكذيبًا. دعاهم إلى توحيد اللّه: {لقَد أرْسَلْنا نُوحًا إلَى قومِهِ، فقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُم مَن إلَهٌ غَيْرُه إنّيَ أخافُ عليكُم عذابَ يومٍ عظيم}، لكن مَن لم يجعل اللّه له نورًا فما له من نور، جادَل هؤلاء عن باطِلهم، واتّهموا نبيّهم بالضّلال، وأنّه ليس له فضل عليهم، وأنّ ضِعَافَ الْقَوم هُمُ الّذين يَتّبِعونَه: {مَا نَرَاكَ إلَّا بَشَرًا مِثْلنا، وما نَراك اتَّبَعَكَ إلّا الّذِينَ هُمُ أرَاذِلُنا بَادِيَ الرَّأي، ومَا نَرى لكُم عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُم كاذِبين}. لَبِثَ نبيّ اللّه نوح في دعوة قومه ألف سنة إلّا خمسين عامًا، فما استجاب له إلّا القليل، كلّ هذه المدّة ولم يؤمن به إلّا النَّزْرُ اليسير، بل إنّ زوجته وابنه لم يُؤمِنَا به، فما أشدّ صبر الرّسل، وما أعظم أثرهم على النّاس. ولمّا طال عليه الزّمن أخبره ربّه أنّه لن يؤمن مِن قومه إلّا مَن قد آمَنَ، وأمَرَهُ بصنع الفُلْك، فرَاحُوا يمرُّون عليه ساخرين منه: {وَيَصْنَعُ الْفلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فإنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرون، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيم}، ولمّا صنع الفُلك قال اللّه عنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر}، وقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إنَّكَ إنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}. ثمّ قال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءِ مُنْهَمِر، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا، فَالْتَقَى الْمَاءَ عَلَى أمْرٍ قَدْ قُدِر، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ ألْوَاحٍ وَدُسُر، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِر}، أي: نراها ونحفظها ثوابًا لنوح لأنّه كفر به قومه، وأهلك اللّه قوم نوح، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، استجابة لنَبيِّه، وتصديقًا لوَعده، وغيرة على أوليائه: {حَتَّى إذَا اسَتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا، جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُنْجِي مَنْ نَشَاءُ، وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين}. في مستدرك الحاكم: ”لو رحم اللّه من قوم نوح أحدًا لرحم أمّ الصّبي، لمّا نبع الماء وصار في السكك خشيت عليه وكانت تحبُّه حبًّا شديدًا، فخرجت إلى الجبل حتّى بلغت ثلثه فلمّا بلغها الماء ارتفعت حتّى بلغت ثلثيه، فلمّا بلغها الماء خرجت به حتّى استوت على الجبل، فلمّا بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها، فغرقَا، فلو رحم اللّه أحدًا لرحم أمّ الصّبي”، ولمّا أغرق اللّه الكفّار وانتهى عذابهم قال: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا، وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ ممَّنْ مَعَكَ، وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُم ثُمَّ يَمَسُّهُم مِنَّا عَذَابٌ ألِيمٌ}. فهذه هي قصّة نوح وقومه كما قصّها اللّه في كتابه على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {تِلْكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إلَيْكَ، مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا، فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}. فللنظر في صبر الدّعاة إلى اللّه على الأذى، وتحمّل المشاق في تبليغ الدّعوة، ولو طال الأمد، فنوح ما كلَّ ولا ملَّ، ولم يقُل: إنّ هؤلاء قوم لا خير فيهم وترك دعوتهم، بل أكثر لهم النُّصح إلى أن أخبره اللّه أنّه لن يؤمن مِن قومه إلّا مَن قد آمن. واللّه وليّ التّوفيق.