يشمل واجب الدعوة إلى الله تعالى جميع أفراد الأمة، قال تعالى "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِين"، فكل مسلم مأمور بالدعوة إلى الله تعالى لأنه من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والآية الكريمة تبيّن سبيل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الدعوة على بصيرة، قال تعالى "أنا ومن اتبعني"، ونحن أتباعه، فالدعوة واجبة علينا، والدعوة هي التي تنقل الأمة إلى الخيرية، يقول تعالى "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه"، وهذه الدعوة لها سلاحان هامان هما: العلم، والصبر، فهما شرطا صحتها وفاعليتها، أما شرط قبولها عند الله فهو الإخلاص لله سبحانه، فالدعوة لا بد لها من العلم لقوله تعالى "أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة"، فالبصيرة هي العلم وهي الحكمة في قول الله سبحانه وتعالى "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة"، وهي الحق في قوله تعالى "وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر". ملازمة الأذى للدعوة يُوجب الصبر ينادي الله سبحانه وتعالى المؤمنين، قال جلّ جلاله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبر وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين"، وقال "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون"، فهو سبحانه يأمر بالصبر، بل أن نفوق عدونا صبرا، فنصبر أكثر من صبرهم، فإن الفوز والنصر للصابرين، فهو سبحانه يقول "كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين"، والله يأمر نبيه بالصبر مع من يدعوهم فيقول سبحانه "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيا"، وليكن صبرنا في الدعوة هو السلاح الواقي، قال تعالى "وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط"، ولنعلم أن أجر الصابرين عظيم، قال تعالى "وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"، وتاريخ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم خير مثال يوضح الصبر العملي، فهم كانوا يثبتون على حجتهم مهما خالف القوم، فهذا «نوح» يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما لا يمل من دعوتهم ولم يدع عليهم ولم ينحرف نحوهم رغم كثرة عدد الكافرين ورغم أن زوجه وولده كانوا من الكافرين، فلما أعلمه ربه "أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَن"، دعا عليهم فقال "رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارا"، وصبر على استهزائهم بدعوته، وكذلك صبر «إبراهيم» عليه السلام في قومه وكانت الحجة مَنطِقَه الذي يدعوهم به، فحاج ملكهم الذي ادعى أنه إله من دون الله فبهت الذي كفر، وحاج عبّاد الكواكب فغلبهم وحاج عبّاد الأوثان بالحجة العملية فأقروا أنهم الظالمون، لكن لما غلبهم بالحجة قالوا "حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُم"، لكن الله جعل النار بردا وسلاما عليه، وكذلك صبر «إسماعيل» على الذبح، ففداه الله بذبح عظيم، وصبر «يعقوب» على كيد ولده وفراق «يوسف»، فأظفره الله، وصبر «يوسف» على ترك الشهوة الحرام لما دعته ذات المنصب والجمال فقال "معاذ الله"، وصبره على السجن مظلوما، بل لما خير بين الفحشاء والسجن قال "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْه"، وكان عاقبة صبره أن رفعه الله في الدنيا، وكذلك صبر «أيوب» وصبر «داود» وصبر «موسى» على فرعون، بل وعلى بني إسرائيل، يدعوهم فيتفلتون، وصبر «عيسى» عليه السلام حتى أراد قومه صلبه لما لم يستطيعوا مجاراته، فأنجاه الله منهم ورفعه إليه "وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُم". مُجاهدة نبينا الكريم يعدّ صبر نبينا «محمد» صلى الله عليه وسلم أعظم صبر، وعاقبته كانت خير عاقبة، وقد جُعل ذكره باقيا، حيث جعل الله معجزة كل نبي تنتهي قبل موته، فلم يبق إلا أكبر معجزة وهي معجزة «محمد» صلى الله عليه وسلم، وهي التي أبقت في القلوب الإيمان بالأنبياء وبمعجزاتهم وبنزاهتهم وصدقهم وصبرهم في دعوتهم لأممهم، والله سبحانه وتعالى جعل في كل أمة رسولا، فلما ختم الرسالات جعل الدعاة إلى الله هم الذين يخلفون الرسل في هذه الدعوة فيقومون بها، فلابد أن يتخذوا من الصبر والعلم والإخلاص عُدّة لهم حتى يؤيدهم الله بقوته، قال تعالى "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينا"، فمنهج الإسلام منهج كامل لا يحتاج إلى إضافة أو حذف أو تغيير، لأن الله أكمله وأتمه ورضيه، ومن أجل ذلك كانت الدعوة إلى الله بالقرآن والسنة كما فهمها خير القرون الذين زكاهم الله وزكاهم نبيه صلى الله عليه وسلم هو المنهج الصواب الذي يجب علينا أن نصبر على تعلمه وأن نعلمه الأهل والأقارب وأن نصبر على تعليمه للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الصابر الأول، إمام الصابرين في كل أمر، وجاءه الوحي يعلمه الصبر من أول نزوله، حيث جاءه الملك في الغار يقول له "اقرأ"، قال "ما أنا بقارئ"، قال "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد"، ثم قال لي "اقرأ"، فمع التكليف ضمه ضمة قوية لتعلم الصبر، فلما أمره "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين" كان أول كافر به عمه «أبو لهب» فصبر، فلما جاءه قومه يعرضون عليه العروض للتخلي عن الدعوة قال "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أدع هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما فعلت"، فصبر على الدعوة، فلما آذاه قومه بالسباب والهجر وسائر صنوف الأذى صبر، فلم يدع عليهم، بل دعا لهم بالهداية، فلما قاتلوه صبر لقتالهم وأخذ يصبر في دعوة الناس فيقبل من جاهلهم ويعفو عن مسيئهم ويرشد ضالهم ويحلم على من يسفه عليه، وقد سار الصحابة ومن بعدهم على منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والصبر، فصابرو في طلب العلم والعمل به والدعوة إليه، فنشر الله بهم الإسلام حتى ملأ آسيا وإفريقيا ودخل أوربا، فنحن بعض ثمار دعوتهم، فالمسلم في حاجة إلى الصبر لتحصيل العلم وطلبه، فيصبر مع القرآن والسنة حفظا وفهما، ويصبر على لزوم الصحيح من الأفهام، فلا تغرّه شبهات أهل الضلال ولا تنحرف به سبل الشيطان فتفرق به عن سبيل المؤمنين، ثم يصبر على العمل بذلك العلم، فتكون القلوب معتقدة الحق والجوارح عابدة لربها، مقتدية بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويكون السلوك موافقا لذلك العلم في النفس والمال، ثم يصبر المسلم على ترك المعاصي رغم توفر دواعيها في النفس وتفشيها في المجتمع من حوله، ثم يصبر على دعوة الناس لذلك العلم، متحملا صعاب الدعوة، صابرا مع المتعلمين، يرفق بهم ويحسن إليهم. تحقيق الصبر في محلّ كفر قد تكون حياة المسلم مقدّرة في أرض لم تُرفع فيها راية التوحيد، فيكون عيشه بين قوم لا يتعرفون برسالة الإسلام، وفي هذه الحالة يلزمه صبر آخر لإقامة دينه، حفظا في صدره ودعوة له مع الكافرين الذين قد يفتح الله لهم به بابا في الجنة فيكون سببا في هدايتهم إلى الحق، ومن دواعي صبره هذه المقدمات: - صبره في الثبات على الإيمان اعتقادا وعملا. - صبره على تعليم أهله وتثبيتهم على الحق. - صبره في مواجهة الدعوات الضالة التي تشتت على الناس دينهم. - صبره على العُصاة حتى يلتزموا الطاعة ويتركوا المعصية. - صبره على أن يكون ممتثلا الإسلام في نفسه، فلا يراه الناس على مُحرم ولا يهجر طاعة، ولو دعته لذلك حاجة ولكن يُصابر ذلك. - صبره على إحسان صلته بربه في سره وعلنه. ويبقى باب الصبر بابا واسعا يلج منه الدعاة إلى الله والسائرون في طريق الحق، ممتثلين نصب أعينهم دائما وأبدا قول الله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون".