لماذا لم يعد فن الرواية قادرا على نحت أبطال وشخصيات استثنائية؟ شخصيات مذهلة تأسر القارئ مثل شخصية دونكيشوت، دونخوان، فاوست، الغريب، زوربا اليوناني؟.. منذ عشريات لا أذكر أن رواية استطاعت أن تهزّ عشاق هذا الفن ببطولة تكسر نمطية الشخصية القاعدية للمجتمع، والتي يبدو أن تأثيرات العولمة وما بعد الحداثة قد نجحت في تنميط كل اليوتوبيات الفردية. أذكر أنني حين قرأت رواية “الغريب” لأول مرّة، وكنت حينها طالبا، تماهيت مع شخصية ميرسو الى درجة عصابية، أُصِبتُ بمتلازمة الغريب: اللامبالاة، الصمت، الزهد في الفضول، وكلبيّة حادة إزاء المستقبل والموت.. الرواية في جوهرها هي نحت المتلازمات العصابية لمقاومة نمطية أكثر مرضيّة. أكثر من ذلك بعض الأبطال تصبح أكثر واقعية وتأثيرا من كتّابها، من منّا لم تذهله شخصية “مصطفى سعيد” وأنسته في الطّيب صالح وروايته. من منّا لم يتماهى مع زوربا الى آخر رقصة؟ هل يكون اختفاء البطل امتدادا لانهيار السرديات الكبرى؟ هل تخلّت الرواية ما بعد الحداثية عن هاجس البدائل اليوتوبية الجذرية؟ ففي عالمنا المعولم لم يعد ممكنا ظهور البطل واقعيا كان أم سرديّا. لقدّ سلمت الآلهةُ مقاليد التاريخ للتقنيين والخبراء والفنيين في تسيير شؤون البشر، وأحالت كل الأبطال والمصلحين والمتفرّدين نسيا منسيّا. الشخصية البطلة هي عماد العمل الروائي، وحين ينجح الروائي في إبداع شخصية استقطابية، تصبح كل الرواية “تقاطع رجلٍ وقَدَر” كما يقول المثل الفرنسي. إن جوهر الشخصية الروائية هو نقض الشخصية العمومية المشاعة في عصرها، لكنها تحمِلُ كل أسئلة عصرها وتختزلها في مواقفها وسلوكاتها، ولهذا كانت دونكيشوت أول رواية في التاريخ بالمفهوم الحديث للفن الروائي. تدور رواية دونكيشوت كلّها حول نقض النزوع العام للعصر ورفضه، ولو بالمناهضة السحرية لعجلة التاريخ. رواية دونكيشوت دشّنت فن الرواية بوصفه فن إبداع الشخصيات البديلة للعصر، والذي سيصبح الفن الأساسي للعصر الحديث. دونكيشوت هو شخصية القرن 16، ودونخوان شخصية القرن 17، وفاوست للقرن 18، كما أن مدام بوفاري هي شخصية القرن 19، وربما يكون “الغريب” ميرسو أو زوربا هو شخصية القرن ال 20، ولا بطولة لقرننا، فهل انتهى عصر السّرد؟ هناك من يفسّر هذا الاختفاء بانتقاله إلى الفن السينمائي، كون السينما أصبحت صناعة الأبطال، لكن البطل السينمائي بطلا جماهيريّا لا يمكنه أن يسجّل أي استثناء فلسفي. ذلك لأن الفن السينمائي محكوم بمتطلبات البطولة الجماهيرية وله حدود فنية في نحت “الشخص” وتحليل جوانبها الخفية التي لا تنكشف إلا للفن الروائي. كما يعزو آخرون اختفاء الأبطال إلى نهاية المدينة، وانفلاق المفهوم اليوناني للمدينة الذي تجلّى في شخصية سقراط بوصفه الهالة العليا للشخصية الإنسانية. وهناك أيضا من يعزو ذلك إلى تشظّي مفهوم البطوله وتفرّق دمه بين مجالات الفرجة المتعددة لِعصرنا، فقد صار لدينا أبطال في السينما وأبطال في التلفزيون وأخرى رياضية وحتى موسيقية وغنائية. ما أكثر الأبطال وما أقلّ البطولة الروائية مثل السيّاسة، عالمُ سحريّ بامتيّاز، وسحر البطولة فيه هو العنصر الأساسي في ممارسة الجذب المطلوب لتماسك العالم. وقد بات واضحا أن عصر الزعامة والبطولة في السياسة قد انتهى إلى الأبد، والدول التي تفشل في الانتقال من دولة الزعيم إلى دولة الخبير والتكنوقراط، مهددة بالانحلال والتلاشي والاندثار – كل ما يحدث في العالم العربي يشهد على ذلك - لا يزال العالم العربي سحريّا في معظم مناطقه الوجودية، وقد باغته التاريخ بحتميّاته القاسية في التغيير والانتقال من عصر الزعامة إلى عصر الإدارة والقانون، فانفرط عقد العروة السياسية فيه وهو لم يشارف نصف نضجه. أما الرواية العربية، فطوال تاريخها لم تنجح في نحت شخوص استثنائية، كأن البطولة في الثقافة العربية المعاصرة توقّفت عند الزعماء السياسيين ولم يُسمح لها بالانتشار في باقي المجالات لاسيما مجال السّرد الروائي منذ “زينب” أول رواية عربية. عادة ما يكون البطل، فردا من عامّة الناس، مقهورا، مضغوطا، هامشيّا، منفعلا لا فاعلا. لم يتحرر الفرد العربي من عالمه المعادي والمحاصِر لكينونته من كل أطرافها، لم يتحرر من شرطه التاريخي المنتهَك حتى يحلم ببطولة تحلّق به في أقاصي الفتح والغزو والكشف. إذا كانت التراجيدية اليونانية تجسيدٌ للكشوفات الأنطولوجية للإنسان القديم، فإن الرواية الحديثة، أيضا توثّق الكشوفات الوجودية للإنسان الحديث، والتي تختلف جذريّا عن كشوفات الإنسانيات ما قبل الحداثة. فالحداثة هي نمط من الوجود الصيروري لا يقفُ عند أي تعريف، نمط من التحوّل الوجودي المصاحب للكشف والاكتشاف، والبطولة الحديثة التي وجدت في الفن الروائي تجسيدها الأمثل، تأتي كلّها مسيرة ودرب ورحلة في مناطق مجهولة من الكينونة، أي أن الفن الروائي يدخل في صلب الكشف عن الكينونة مثله مثل تاريخ الأنطولوجيا الحديثة. ويبدو تاريخ الحداثة منذ القرن الخامس عشر كله رحلة في المجهول، فمن كشوفات العلم الخارقة إلى الكشوفات الجغرافية المصاحبة للحركة الاستعمارية إلى التحوّلات السياسية والاقتصادية المذهلة تتكشّف لنا مناطق للكينونة لم يعهدها الإنسان من قبل. لقد بات واضحا أن الفن الروائي هو الأقدر تعبيرا عن هذه التحوّلات، فهو فن واسع شاسع وممتد التلابيب إلى كل الآفاق. ومن دنكيشوت الذي خاض في رحلة المستحيل، رحلة توقيف هذه الصيرورة التاريخية الجارفة، إلى دونخوان الذي جسّد بعمق معنى الصيرورة واستحالة القبض عليها في امرأة واحدة، وإلى فاوست كابد قوّة الجبّارة للعلم الحديث إلى زوربا الذي عاش رحلة الكشف عن الفردية وممكناتها التحررية، يبدو البطل في الرواية هو قطب الرحى في ملحمة الكشف. فهل استنفدت الكينونة الانسانية كل ممكناتها؟ أم أننا دخلنا عصرا من نسيان الكينونة بحيث فقد الفن الروائي القدرة على الإصغاء لصوتها؟