تمكنت “الخبر” من دخول إحدى المصانع المتواجدة في أحد أحياء مدينة سطيف، والمختصة في إنتاج الأكياس البلاستيكية بكل أنواعها السوداء منها والملوّنة بمختلف الأحجام الصغيرة والكبيرة، ولعل أول استفهام يطرح نفسه في هذه الورشة هو السبب الحقيقي لخطورة الأكياس البلاستيكية السوداء، فقد أكد أحد العمال أن الأمر يتعلق بالمادة الأولية، فالبلاستيك الخام والنظيف لا يمكن أن يشكّل أي خطر، فهو مادة كيميائية معالجة بشكل جيد ويمكن أن تصنع بها الأكياس البلاستيكية الجيدة، لكن المشكل في ثمنها الحقيقي المرتفع نسبيا مع البلاستيك المعاد تكريره في الورشات البعيدة عن الرقابة، حيث يتم جمع البلاستيك وإعادة طحنه ومن ثم استعماله في صناعة الأكياس عبر وضع ملون أسود لإخفاء الشوائب التي تظهر فيما بعد، حيث يمكن لقنطار من هذه المادة إنتاج 3 آلاف كيس من فئة 5 كلغ، إضافة إلى أنها خطيرة على الإنسان بحكم الرائحة التي تخرج منها أثناء التصنيع والغبار المتطاير الذي يسبب الحساسية الجلدية وحتى تساقط الشعر. صاحب الورشة يقول “الغريب في الأمر أن الدولة لا تزال تمنح تراخيص لاستيراد هذه الآلات عن طريق وكالات دعم الشباب، مما يرفع من عدد المنتجين إلى أكثر من 1200 مصنع وورشة عبر الوطن، وحتى إن منعت الدولة إنتاج هذه الأكياس، فلا يمكن لهذه الورشات سوى شراء البلاستيك المعاد تكريره من أجل الحصول على هامش ربح يضمن لها استمراريتها، خاصة مع نقص اليد العاملة”. الصاشيات فتحت بيوتا وأعالت أسرا لا يختلف اثنان على أن باعة الأكياس البلاستيكية السوداء منتشرون بشكل كبير في مختلف الأحياء التي توجد بها محلات وأسواق جوارية، فمعظم التلاميذ يلجأون إلى بيع الأكياس في مواسم العطل ونهاية الأسبوع، بل وتدرّ عليهم مبالغ محترمة لإعالة أنفسهم وذويهم. ويروي عمي رابح أحد الذين تعوّد أهالي سطيف على رؤيته في سوق لندريولي منذ سنوات قائلا: “يا ولدي هذه الأكياس فتحت بيوتا وأسرا وزوجت شبابا وعلّمتهم إلى غاية أن صاروا إطارات مهمة في الدولة”، ومما جعل هذه المهنة منتشرة في الأسواق هو عدم حاجتها إلى رأس مال كبير، في مقابل حاجتها إلى صبر ومجهود يومي كبير، حيث يضطر بائع الأكياس على التجول في كل شبر من السوق و المناداة بأعلى صوته “صاشيات صوليد”. تجار الجملة: استحالة الاستغناء عن الأكياس بعد الخروج من الورشة، أردنا التوجه إلى باعة الأكياس بالجملة بحي “الباطوار” المعروف بمدينة سطيف، حيث تنقل إحدى سيارات “هاربين” القادمة من إحدى الورشات كميات كبيرة من الأكياس السوداء المختلفة الأحجام إلى أحد المستودعات، اقتربنا من أحد التجار الذي رفض إعطاءنا تفاصيل كثيرة باستثناء أن الأكياس البلاستيكية السوداء مطلوبة بكثرة وإشاعة تسببها في أمراض خطيرة ما هي إلا كذبة للقضاء عليها ومنح الفرصة لرجال أعمال من أصحاب النفوذ لاحتكار السوق قائلا “لا توجد أي مشاكل، الكل يقتني سلعه داخل هذه الأكياس منذ أكثر من 30 سنة ولا وجود للأمراض”. وعن الطلب المتزايد عليها في السوق قال “الطلب متعلق بالمواسم، فشهر رمضان والأعياد والمواسم الدينية هي أفضل الأوقات”، فيما أكد باعة آخرون يقصدون هذا المحل من أجل شراء الأكياس السوداء الكبيرة الحجم “لا توجد بدائل أخرى، فالأكياس السوداء الكبيرة تستعمل في شحن السلع بشكل جيد”. مرسوم تنفيذي لم ينفذ! يهدف المرسوم التنفيذي الصادر في 2005 تحت رقم 04/210، للقضاء الكلي على استعمال الأكياس السوداء، كما يعاقب منتجي هذه الأكياس.. حيث تم غلق العشرات من وحدات إنتاج الأكياس غير المحترمة للبيئة. وبعد أكثر من 10 سنوات من إصدار المرسوم والشروع في العمل به، تستمر هذه “الصاشيات” في التواجد في الأسواق وتكاد تكون الوحيدة المعمول بها في تغليف المواد الغذائية. شريف رحماني.. ذهب الوزير وبقيت الأكياس كان وزير البيئة الأسبق شريف رحماني، أول من تحدّث عن مشروع قانون يمنع استعمال الأكياس البلاستيكية السوداء سنة 2005، وأطلق حملة ضد صناعتها وتسويقها، بسبب ما تحمله من مخاطر على صحة السكان ومخاطر على البيئة والمحيط، لكن بقيت التعليمة حملة على ورق. يتذكر الجزائريون بالتأكيد الحملة الواسعة النطاق التي أطلقتها السلطات ممثلة في وزارة البيئة وتهيئة الإقليم ضد استعمال الأكياس السوداء بين سنتي 2005 و2006، ووصفها المسؤول الأول عن قطاع البيئة آنذاك شريف رحماني بأنها “قنبلة موقوتة تهدد صحة المواطن والبيئة والمحيط وتشوّه المنظر العام”. وتحدّث الوزير وقتها عن “أكياس صديقة للبيئة” بديلة عن الأكياس السوداء، تكون ورقية أو بألوان أخرى، واستندت الوزارة في قرارها إلى تقارير أعدّتها مخابر متخصصة أجنبية وجزائرية أسند إليها ملف تحليل مخاطر الأكياس البلاستيكية، وجاء في النتائج أن الأكياس السوداء تحمل مواد كيميائية سامة خطيرة ومُسرطنة، وبأقل درجة الأكياس البلاستيكية الشفافة والملونة، التي ذكرت الوزارة أنه سيتم التخلص منها تدريجيا. وبعد أن قدم تاريخ 2 جويلية 2005 للتخلص نهائيا من تسويق هذه الأكياس، عاد شريف رحماني وقتها وأعلن عن تأجيل القرار إلى 31 ديسمبر من نفس السنة بعد منح مهلة لمنتجي الأكياس البلاستيكية، حيث تم الاتفاق مع مسيري المصانع المنتجة للأكياس السوداء إلى تقليص حجم الإنتاج إلى الحدود القصوى قبل التخلص منها نهائيا. وذكر رحماني أن نحو 300 منتج ينشطون رسميا، غير أن هناك ضعف هذا العدد ينشطون في ورشات سرية. وأعقب هذا الاتفاق التوقيع على مذكرة تفاهم بين وزارة البيئة وتهيئة الإقليم، الفدرالية الوطنية لأرباب العمل، والمركز الوطني لعلم السموم، المركز الوطني لمراقبة الجودة. يشار إلى أن السلطات جنّدت آنذاك كل القطاعات للمساهمة في إنجاح حملة التخلص من الأكياس البلاستيكية السوداء، حيث أطلقت وزارة التضامن بالموازاة مع ذلك برنامجا من أجل “الجزائر البيضاء”، وراهنت على تعاون المواطنين لإنجاح الحملة والمشاركة في تنظيف الشوارع والتخلص أيضا من الأكياس البلاستيكية العالقة في الأعمدة والأشجار مشوّهة منظر المحيط. كما تلقى المواطنون رسائل قصيرة على هواتفهم النقالة، تحثهم لمساعدة السلطات من أجل التخلص من الأكياس البلاستيكية المسببة للمخاطر على صحتهم، غير أنه بعد 10 سنوات لا تزال هذه التعليمة حبرا على ورق. وزيرة البيئة وتهيئة الإقليم دليلة بوجمعة ل”الخبر” “ليس كل كيس أسود يشكل خطرا على الصحة” كشفت وزيرة البيئة وتهيئة الاقليم، دليلة بوجمعة، عن استراتيجية جديدة لتسيير ظاهرة الأكياس البلاستيكية، ستدخل حيز التنفيذ في غضون الشهرين المقبلين،وستعطي تسعيرة لها، مشيرة إلى أن منعها حاليا يترتب عليه أضرار تمس بالمنتجين والمؤسسات المصغرة والبيئة. وقالت الوزيرة في لقاء مع “الخبر” أمس، إن ظاهرة الأكياس البلاستيكية ليست مشكلة وطنية بل عالمية، معلنة عن تبني سياسة تنظيمها من أجل التقليص التدريجي لاستعمالها بالتنسيق والتشاور مع وحدات صناعة الأكياس البلاستيكية، خاصة بعد أن أصبحت تشوّه وجه المحيط وتتسبب في التلوث الحضري. وذكرت الوزيرة أن منع الأكياس البلاستيكية “ليس هو الحل الأنجع في الوقت الراهن”، لأن ذلك يترتب عليه غلق 600 وحدة صناعية بما فيها المؤسسات الصغيرة في إطار وكالة دعم تشغيل الشباب، ويقضي على 20 ألف منصب عمل، وفوق ذلك ستجعل المواطن يعود لاستعمال الوسائل البدائية في التخلص من النفايات كالدلاء، وعلب الكرتون، مما يوثّر سلبا على المحيط. وعن التدابير المتخذة من قبل الوزارة للحد من الظاهرة، أكدت المسؤولة الأولى عن قطاع البيئة “أنها تشمل التنظيم التقني الخاص بالأكياس البلاستيكية، حيث تصبح أكثر سمكا وأثقل وزنا، مما يمنع “تطايرها” في الهواء ويسمح بالاستعمال المتكرر لها. كما سيتم اللجوء الى الأكياس البلاستيكية القابلة للتحلل البيولوجي، عن طريق الأكسدة، حيث تتفتت تحت تأثير الحرارة والضوء في غضون 3 الى 6 أشهر وقد تصل إلى سنة. ولعل من أنجع التدابير التي ستحدّ من الظاهرة، إلغاء مجانية الأكياس البلاستيكية، حيث أبرزت الوزيرة بوجمعة في هذا الصدد أنه يتم العمل مع وزارة المالية على ضرورة تحسين تحصيل الرسم على الأكياس البلاستيكية المستوردة أو المصنّعة محليا بإدراجها ضمن الرسم على القيمة المضافة، مضيفة “ كل هذه التدابير ستعطي تسعيرة للكيس البلاستيكي الذي لن يصبح مجانا”. كما شددت الوزيرة على المراقبة وتفعيل اللجان الولائية المختلطة المكلفة بمراقبة النوعية ومكافحة النشاط الموازي من خلال “نظام تتبع “يسمح بمعاينة الكيس البلاستيكي ومدى مطابقته للمعايير، مع ضرورة إشراك كل الفاعلين الصناعيين للإندماج ضمن هذه الاستراتيجية. وفي ردها عن سؤال حول الأضرار الصحية للأكياس السوداء، قالت الوزيرة “ليس أي كيس أسود يشكل خطرا على صحة المواطن، فقد تم القضاء على الأكياس السوداء، لأن المادة الأولية لصنعها والتي تحمل مادة الكربون الأسود لم تعد موجودة”. جمعية حماية المستهلك “مواد مسرطنة في الأكياس” دعا مصطفى زبدي رئيس جمعية حماية المستهلك نداءه بعدم استعمال الأكياس البلاستيكية في لفّ المواد الغذائية معتبرا ذلك مشكل صحة عمومية، ليطالب بضرورة إعادة تحرك وسائل الرقابة لمنع ذلك مع تطبيق القانون المانع لاستعمالها في الجانب الغذائي بصرامة. وأضاف ذات المصدر أنه يتوجب على وزارة التجارة ومكاتب الوقاية على مستوى البلديات و كذا مصالح الرقابة الصحية والتجارية، أن تسعى لتحذير التجار بعدم استعمالها، خاصة وأن التعليمة القاضية بمنع استهلاكها لحفظ المواد الغذائية موجودة، ويكفي فقط أن يتم الاتفاق على تطبيقها على أرضية الواقع، وبالتالي إخطار هؤلاء التجار بأن عدم التزامهم بالتطبيق يعرّضهم لصرامة القانون، ليتّهم محدثنا هذه الجهات الرسمية بالتراخي فيما يخص تطبيق القانون الرادع لذلك رغم ما له من آثار وخيمة على صحة المواطن، باعتبار أن الأكياس البلاستيكية تحتوي على مادة سامة مسرطنة يمكنها أن تتسرب إلى الأغذية وتتسبب للمستهلك في الإصابة بأكثر أمراض العصر انتشارا وهو داء السرطان، إلى جانب تأثيرها السلبي على البيئة كونها لا تتحلل بسرعة. وعن البديل قال زبدي بأنهم بادروا في إطار فيدرالية حماية المستهلك، إلى إعادة إحياء القفة التقليدية، حيث كان لديهم مشروع حول العودة لها خاصة وأنها رمز لتقاليدنا، ناهيك عن نظافتها وكونها سهلة للحمل، إلا أنهم لم يجدوا الدعم الكافي من قبل المؤسسات لبعث المشروع. أما عن أكياس الورق التي طالبت الفيدرالية الوطنية للخبازين منذ سنوات باستعمالها في لف مادة الخبز ولاقت تشجيعا من قبل جمعية حماية المستهلك، فلم تر النور وللأسف ولا زال الخبز يباع ضمن أكياس بلاستيكية رغم ما لذلك من ضرر، لأن تفاعل البلاستيك مع مادة ساخنة أو مادة حافظة مثل التي تدخل في بيع “الشربات” التي عادة ما نراها على ناصية الطرقات يؤدي إلى تسرب مواد سامة خطيرة على صحة المستهلك. سلال أعلن الحرب على أكياس الحليب ولم يبدأها في الوقت الذي كان الجزائريون يعانون الأمرّين للحصول على كيس حليب الذي كان يعرف ندرة في أسواق العاصمة وعددا من الولايات، فاجأ الوزير الأول عبد المالك سلال الجميع في شهر جانفي الماضي، معلنا منع تعبئة الحليب في الأكياس البلاستيكية. وجاء الإعلان عن قرار الوزير الأول من ولاية مستغانم الذي كان في زيارة لها، حيث طالب أصحاب الملبنات بتصريف مخزونهم من مادة الأكياس البلاستيكية خلال مدة الثلاثة أشهر على أقصى تقدير. وبرر سلال القرار بأن التحاليل أثبتت بأن الأكياس البلاستيكية مادة سامة ومسرطنة، مستدلا بعدد حالات السرطان التي تسجل سنويا في الجزائر. وطالب منتجي الحليب بالتوجّه إلى العلب “الكارتونية”، مؤكدا أن وزارة البيئة وتهيئة الإقليم ستتولى التنفيذ، لكن مضت الأشهر الثلاث التي أصبحت أحد عشر شهرا دون أن يدخل القرار حيز التنفيذ، ولا زلنا نشرب الحليب المعبأ في الأكياس البلاستيكية. حملة “المليوني قفة وكيس قماش” ماتت قبل أن تولد قال رئيس الفدرالية الوطنية للمستهلِكين، زكي احريز، أن جمعيته أطلقت مشروعا لتوزيع مليوني قفة وكيس قماش سنة 2012 بالتنسيق مع وزارة السياحة والبيئة وتهيئة الاقليم لكنها فشلت بسبب غياب الدعم والتمويل من طرف المتعاملين الاقتصاديين والتجار. وأضاف احريز في تصريح ل”الخبر”، أن منظمته شرعت في توزيع ألفي قفة وكيس قماش على المستهلكين بمناسبة معرض الصناعة التقليدية لسنة 2012 ووزعت ألفي قفة في العاصمة والوادي في مارس 2013 بمناسبة اليوم العالمي للمستهلك، لتتوقف المبادرة التي لم تكن محل ترحيب من طرف الجهات الوصية، بحجة أنه لا يمكن تمويله من صندوق مكافحة التلوث.