أوضح مراد بن أشنهو، وزير الاقتصاد الأسبق، أن الكتابات التاريخية أهملت دور النخب الاجتماعية البرجوازية في حرب التحرير، معتبرا أن كثير من العائلات الغنية في تلمسان، وحتى تلك التي هاجرت إلى المغرب فرارا من التعسف الاستعماري، ساهمت في المجهود الثوري. وقال إنه لجأ لكتابة مذكراته “إنذارات المصير” الصادرة حديثا عن منشورات “القصبة”، في محاولة لإبراز دور الأفراد في الثورة، بعد أن كان التاريخ الرسمي يعتبر هذا النوع من الكتابات بمثابة محاولات لزرع الجدل. اعتبر مراد بن أشنهو، لدى نزوله ضيفا على ندوة “الخبر”، لتقديم مذكراته الصادرة عن منشورات “القصبة”، بعنوان “إنذارات المصير”، أنه يشعر بكثير من الأسف لما أصبح يلحق مؤسس المخابرات الجزائرية العقيد عبد الحفيظ بوصوف من محاولات لطمس دوره ومكانته. وقال بالمناسبة “الاتهامات التي تطال بوصوف من هنا وهناك، لا أساس لها من الصحة”، وأضاف: “لقد فضّل الانسحاب من الحياة السياسية بعد ما وصلت إليه الأوضاع بعد 1962 من صراع على السلطة وتطاحن أخوي. فدرجة الوطنية التي كانت تميزه جعلته ينآى عن الخلافات السياسية”. وكشف بن أشنهو أنه التقى ببوصوف عقب الاستقلال، بنزل “آليتي” (الجزائر حاليا)، وأراد أن يعرف مواقفه من الصراعات التي كانت تدور على السلطة حينها، فكان رده كالتالي: “أنا مهمتي انتهت”، مضيفا: “حاول الرئيس بومدين تعيينه على رأس الشركة الجزائرية للكهرباء والغاز، لكنه رفض المنصب، فقال كلمته الشهيرة: “لست بحاجة إليكم لكي أعيش”، ورفض حتى الحصول على مرتب من الدولة”. وأبدى بن أشنهو أسفه من وجود كتابات قاسية حول شخص بوصوف، وقال: “عرف الرجل بالتزامه ووطنيته، ولعب دورا كبيرا في تأسيس المخابرات الجزائرية التي حمت الثورة، ودافعت عن رجالاتها”، وأضاف: “رجال “المالغ” لم يهتموا بالمناصب السياسية عقب الاستقلال، وتحولوا إلى مجرد مناضلين، وكثير منهم فضّل الالتحاق بالجامعات لتكملة دراساتهم العليا”، موضحا: “من يهاجمون المخابرات الجزائرية في كتاباتهم، يعملون ضد مصالح الجزائر”. وبخصوص مذكراته، قال بن أشنهو، أن المرحلة الحالية سمحت ببروز كتابات فردية، تجاوزات مرحلة “احتكار الدولة” للكتابة التاريخية، معتبرا أن المرحلة السابقة تميزت بفرض تصور سياسي، يقوم على رفض دور الأشخاص بحجة “عدم فتح المجال أمام الانشقاقات، والجدل الذي قد يبرز من خلال كتابة الفاعلين التاريخيين لمذكراتهم، وهم على قيد الحياة”. وقال بن أشنهو :«حتى حق كتابة المسار الشخصي خلال الثورة، كان ممنوعا”، مضيفا: “لكن الظروف تغيرت، وأعتقد أنه حان الوقت لتعويض ما فات، خاصة وأن الفاعلين الذين شاركوا في الثورة يتناقصون يوما بعد يوم، وهؤلاء حملوا معهم ذكرياتهم، بدل أن يحكوها للأجيال الحالية”. ويعتقد ضيف ندوة “الخبر”، أنه لا يمكن تصحيح المغالطات التي لحقت بحرب التحرير إلا بواسطة كتابة المذكرات، واستحضار دور الأفراد في هذه الحرب ضد الاستعمار، وتأسف للمآل الذي لقيه كثير من قادة الثورة الذين طالهم النسيان بسبب “كتابة التاريخ بواسطة الممحاة”، ويرى أن ظاهرة الإقصاء لم تمس قادة الثورة فقط، بل حتى تاريخ مرحلة ما قبل الثورة، في إشارة منه إلى دور نجم شمال إفريقيا وباقي الحركات الوطنية، وكذا شخص مصالي الحاج، ليظهر في النهاية أن ميلاد جبهة وجيش التحرير الوطني، جاء وكأنه عبارة عن “لحظة ميلاد إلهية”. وأرجع بن أشنهو في مذكراته، هذه الظاهرة الاقصائية التي قامت على التهميش والرفض للتدخل السياسي في كتابة تاريخ الثورة “إلى إضفاء الشرعية على الذين أمسكوا بزمام الأمور عقب الاستقلال”. ويروي بن أشنهو في مذكراته، كيف التحق بجيش التحرير الوطني سنة 1956، وقبلها يستعيد مختلف التأثيرات الثقافية التي ساهمت في تكوينه الثوري، منها مؤلفات الروائيين الجزائريين (محمد ديب ومولود فرعون” اللذان صورا “وضعية الإنسان الجزائري”، وكذا كتاب مالك بن نبي “وجهة العالم الإسلامي”، إضافة لكتاب محمد شريف ساحلي حول الأمير عبد القادر، ورسالة يوغرطة. وذكر بن أشنهو أن المرتبة الاجتماعية لعائلته ذات التاريخ العريق المنحدرة من قبائل بربرية هي “بني يعلى وبني ايفران”، والتي كانت تنتمي للفئة الميسورة، لم تمنع والده حاج عبد الحميد، من النضال في صفوف حزب الشعب انتصار الحريات الديمقراطية، وفي صفوف جمعية العلماء المسلمين في الوقت ذاته. وعليه يحاول بن أشنهو بواسطة مذكراته، كسر القاعدة المنتشرة عن علاقة الفئات الميسورة بالثورة، ويبرز من خلال دور عائلته وعدد من العائلات التلمسانية التي استقرت بالمغرب، أنها لعبت دورا مركزيا، ولم تكن على الهامش مثلما صورته لنا الكتابات التاريخية الرسمية التي أرادت أن تجعل من المجهود الثوري أمرا متعلقا بالفئات المعدومة وسكان الأرياف فقط. واستعاد بن أشنهو الدور الذي لعبه رجل أعمال جزائري ثري يدعى محمد خطاب، استقر بالمغرب، وكان صاحب ثروة هائلة وضعها تحت تصرف الثورة، وهو من كان وراء التحاق قاصدي مرباح بجبهة التحرير الوطني، كما لعب خطاب حسب بن أشنهو دور الوساطة بين قادة الثورة والملك محمد الخامس، نظرا للمكانة المعتبرة التي كان يحظى بها. هذا الانتماء المزدوج للفئة البرجوازية الميسورة وفئة المثقفين، لم يمنع بن أشنهو من الالتحاق بصفوف جيش التحرير استجابة لنداء الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين يوم 19 ماي 1956، وهو على عتبة موعد امتحانات شهادة البكالوريا. وأوضح أنه رفض الالتحاق بالاتحاد الطلابي: “مفضلا العمل الثوري في الميدان على العمل السياسي”. وذكر ضيف “الخبر”، أنه انساق وراء مصير مجهول، ولم يخضع سوى لإرادة شعبية عارمة أرادت التخلص من الاستعمار، وقال: “لقد قمت بمقايضة مصيري الشخصي بمستقبل شعب بأكمله، دون أدنى تردد، ودون طرح الأسئلة المتعلقة بمصيري الفردي”، خاصة وأن مدير الثانوية التي كان يدرس بها، اقترح عليه بواسطة ابنه، التكفل بنقله إلى مدينة “بوردو”، لكي يمتحن دون أن يعرّض حياته للخطر، لكنه رفض الاقتراح، وفضّل الالتحاق بالثورة التي اعتبرها بمثابة مد ثوري لا تخضع للانتظار، رغم جهلها لتنظيمها، ورغم علمه بالخلافات التي كانت موجودة داخل صفوف الحركة الوطنية الثورية، في إشارة منها إلى الصراع الذي برز بين المصاليين والمركزيين وأنصار الحل الثوري، وقال: “لقد التزمت بالثورة وعينيا مغمضتين، ولم أفكر سوى في الاستقلال”. وحرص بن أشنهو في مذكراته على إعطاء المكانة الحقيقية للزعيم مصالي الحاج، وخصّص له فصلا كاملا في كتابه، على شكل قراءة شخصية لدوره النضالي، دون أن يلجأ للأحكام القاسية التي تعوّدنا عليها. وعاد ضيف “الخبر”، وهو يتحدث عن مذكراته لظروف التحاقه بجيش التحرير بالمغرب، موضحا أنه التقى سي مبروك، عبد الحفيظ بوصوف، فأبدى رغبته في الالتحاق بمنطقة بشار، التي كانت تعمل تحت قيادة قايد أحمد، لكن بوصوف اقترح عليه الالتحاق بالاتصالات ب”وجدة”، وتخرّج برتبة ضابط، ليكون شاهدا مهمّا عن ظروف تأسيس المخابرات الجزائرية، كما ورد في المذكرات التي ركّزت على التحولات الاستراتيجية التي لحقت بجيش التحرير عقب مؤتمر الصومام، والتي عرفت الانتقال من حرب العصابات إلى حرب الكتائب، عقب مؤتمر الصومام، وبالتركيز على مشاركته في معركة “فلاوسن” الشهيرة بين 9 و19 أفريل 1957، والتي عرفت وقوع معركة بين ثلاث كتائب من جيش التحرير، والفيلق الخامس الفرنسي المكون من اللفيف الأجنبي مدعما بسرب من الطائرات. عقب الاستقلال فضّل بن أشنهو ترك السلاح ومغادرة الجيش والعودة لمقاعد الدراسة، فهو يرى أنه أنجز مهمته بعد الحصول على الاستقلال، واعتبر أن كتابة مذكراته بمثابة إنجاز آخر لنقل ذكرى الثورة، بواسطة سرد تفاصيل حياته الشخصية وتجربته النضالية.