متى سيكتب صناع الثورة التحريرية أسرارهم !؟؟ تعتبر كتابة المذكرات ظاهرة صحية في كل المجتمعات، فهذا النوع من الكتابات رغم أنه يعاب عليه في الكثير من الأحيان بكونه تمجيدا بدائيا للذات وتحنيطا فرعونيا لا أكثر ولا أقل، إلا أنّ المذكرات التاريخية طالما لعبت دورا كبيرا في معرفة تاريخ أي دولة ومسار رجالها. لهذا فالوسط الثوري الجزائري لم يكن في منأى عن هذه الإشكالية، وقد حرص عدد من رجال الثورة التحريرية المباركة، سواء الذين قضوا نحبهم أو الذين لازالوا على قيد الحياة، على تدوين مسارهم ومسار رفاقهم في الدرب طوال أيام التحرير ضدّ المستعمر الفرنسي الذي عمل على طمس كل معالمنا وحضارتنا وتاريخنا بشتى الوسائل والسبل، إلا أنهم كانوا كالعادة أكبر من هذا العدو دونوا بعد استقلال الجزائر شهاداتهم لتبقى شاهدة على الثورة للأجيال القادمة جيلا بعد آخر، وهو ما وقفت عليه ”الفجر” أثناء بحثها في المكتبات عن المذكرات الثورية، وما أرخه لنا جيل الثورة وجيل الاستقلال بعد أكثر من نصف قرن من الوجود، حيث توضح لنا أن مرحلة الانفتاح على تاريخ شروع رجال الثورة في كتابة تاريخ حرب التحرير لم تبدأ بشكل جدي إلا بعد نهاية فترة الثمانينيات، وبالتحديد بعد القرار الهام الذي صدر عن الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد الرامي لتنظيم سلسلة من الندوات والملتقيات عبر ولايات الوطن، من تنشيط مجاهدين ومؤرخين بهدف تحصيل مادة تساهم مستقبلا في كتابة تاريخ الثورة. وكمرحلة أولية الحفاظ عليه، غير أن هذه الملتقيات التي نشطت على مدار سنوات لم تقدم مادة جديرة بالتحصيل في ظل رفض بعض الأسماء المشاركة فيها، كما رفضت بعض عائلات من رحلوا أن يساوموا على ما تركه الراحلون. المذكرات والكتابات الثورية.. أكثر من نصف قرن من الوجود توضح الذاكرة المدونة في غالبية الكتب التي تسلط الضوء على موضوع ”كتابة تاريخ ثورة التحرير المباركة”، أن هذا النوع من الكتابات تأخر وجوده في الجزائر سواء ما تعلق بكتابة تاريخ الثورة أو تاريخ الحركة الوطنية، ويرجع هؤلاء أسباب هذا التأخير أو ما وصفوه ب” التعطيل”، إلى عهد الرئيس الراحل الهواري بومدين، الذي يقول عدد من المؤرخين بأنه ”عطل كتابة الثورة”، وعمل على تأجيل عدد هام من المذكرات والشهادات التي كان يعتزم في عهده بعض رجال الثورة والمجاهدين أن يدونوه، بل وصل الأمر تجاه بعض الشخصيات أن منعت من إصدار هذه الكتابات، في الوقت الذي كانت الذاكرة الفرنسية حريصة على تدوين أحداث حربها ضدّ الجزائريين من وجهة نظرهم أمثال ايف كوريير وكلود بادي وغيرهم، فالشخصيات التي كانت تدعم الثورة التحريرية الجزائرية من الضفة الأخرى عملت على التطرق إلى رجال الثورة الجزائرية وتأثر الجزائريين بنضالهم وتأثير ذلك على مسار الجزائر بعد الاستقلال. أما المؤرخون الذين انحازوا للمستعمر من الفرنسيين والأوروبيين عموما، فقد كانت كتاباتهم بعيدة عن الحقيقة وشاهد خائن للثورة ولأبطالها. يقول الباحث في التاريخ وأستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر، مصطفى ماضي، بخصوص هذه الإشكالية ”أن المذكرات المتعلقة بالثورة عرفت في عهد الرئيس الراحل بومدين انتشارا كبيرا ولكن غالبية هذه الأعمال لم تصدر في الجزائر بل في فرنسا”. واعتبر المتحدث أن أول مذكرات صدرت في الجزائر كانت مذكرات الرائد لخضر بورڤعة، وبالرغم من القضايا التي سلط عليها الكتاب الضوء من قضايا كانت إلى وقت قريب تصنف في خانة ”المسكوت عنها”، إلا أنها أتاحت بعد ذلك الفرصة أمام قادّة الثورة في الحديث عن تجربة الكفاح المسلح خاصة في عهد الشاذلي بن جديد، الذي يتفق غالبية المؤرخين على أن عهده كان فرصة لرواج هذا النوع من الكتابات. وقال في هذا الصدد ماضي أن ”الجزائر في عهد الشاذلي بن جديد بدأت تعرف انفتاحا وفرته حرية التعبير التي جاء بها الشاذلي مقارنة بما كانت عليه في عهد بومدين”. عشرات المذكرات كتبت غداة الاستقلال وأكثرها جاء من الخارج يقول عدد من المهتمين بالتاريخ والمتتبعين لما يدون فيه أنّ الفترة التي أعقبت استقلال الجزائر كانت فترة ملائمة لكتابة المذكرات الثورية، لكن غالبية تلك المذكرات لم تخرج إلى العلن بل ظلت حبيسة المكاتب الشخصية لهؤلاء الذين كانوا منشغلين ببناء جزائر الاستقلال، لكن ما ميز تلك الفترة وحتى بداية الثماننيات أن غالبية المذكرات صدرت خارج التراب الوطني، وبالتحديد في فرنسا، لكن مع بداية التسعينيات تم إعادة طبع هذه الأعمال في الجزائر وعرفت المكتبات انتعاشا ملحوظا تجاه هذه الإصدارات، خاصة تلك الأعمال التي كانت قد صدرت في عهد بومدين في الوسط الفرنسي، دون أن تتاح فرصة لها للطبع أو التواجد بالمكتبات الجزائرية في عهده، وهو ما دفع الكثير من المؤرخين بالقول أن ”بومدين عرف بقلة اهتمامه بكتابة التاريخ ومنعه لهم من كتابته أيضا”. وقال في هذا السياق المؤرخ والمهتم بالتاريخ والثورة محمد عباس:”من المآخذ على عهد بومدين، هو قلة اهتمامه بالتاريخ ومنع الناس لأن تكتب في التاريخ”، وكانت المقالات التي أكدت على هذه النظرية كثيرة ومتعددة منها ما سلط عليه الراحل عبد الحميد مهري الضوء في الكثير من الكتابات الصحفية فيما مضى. الخمسينية.. مهدّة لمرحلة الانفتاح! ترى بعض الأوساط الفاعلة في مجال الكتابة للتاريخ، أن الاحتفالات المخلدة لذكرى الاستقلال أو لأحداث مهمة في تاريخ الجزائر، خاصة تلك التي حرص الرئيس عبد العزيز بوتفليقة منذ اعتلائه لسدّة الحكم في سنة 1999، مهدت لمرحلة الانفتاح على الكتابة للتاريخ حيث شهدت السنوات الأخيرة إصدار عشرات الأعمال لمجاهدين وعائلاتهم وبعض المؤرخين التي سلطت الضوء على جوانب مهمة وغامضة للثورة التحريرية، وهو ما لم يكن متاحا في الفترات السابقة لهؤلاء. ولعل حرص الدولة بصفة رسمية على منح هذه المسألة أبعادا وطنية في إطار مساعيها لتدوين التاريخ والمساهمة في الحفاظ على هذه الذاكرة، جعل المتابعين يؤكدون على أهمية المرحلة الراهنة في المساهمة في تدوين موضوع ”كتابة تاريخ ثورة التحرير المباركة”. دور الجامعة في حماية التاريخ! يعتقد المؤرخ محمد عباس، أنّ للجامعة وللباحثين الجامعيين دور هام ورئيسي بل ومحوري في حماية هذا الموروث من جهة وفي تدوينه والحفاظ عليه من جهة ثانية، وهي الأهم بالنسبة لكتابة التاريخ الثوري. ويرى المتحدث أن العائق الذي يقف أمام هؤلاء منذ فترة وحتى الوقت الراهن، هو عدم توفر الوثائق الرسمية التي تساعد هؤلاء على القيام بعملهم والمساهمة في تدعيم المكتبة الوطنية بهذه الأعمال التي تتناول تاريخ الثورة التحريرية ونضال الشعب الجزائري طوال عقود من الزمن. وتوضح غالبية الكتابات التي تزخر بها المكتبات الوطنية في الوقت الراهن، أن للجامعة دور كبير وهام في الدفع بهذه الأعمال إلى الواجهة، ويتفق آخرون على القول أن النتائج التي تأتي بها هذه المجموعات من الباحثين الجامعيين ومدونو الثورة والشهادات المتعلقة بهذه المسألة أن بعض الأعمال التي جاءت من الجامعات الجزائرية تجاوزت في الكثير من المرات ما صدر عن المؤرخين والباحثين، خاصة أن هؤلاء كانت لديه جرأة في الطرح والتناول لبعض المواضيع التي ظلت لسنوات عديدة في خانة ”المسكوت عنها”. شخصيات رحلت دون أن تكتب أسرار ثورة التحرير قبل أن نعرج على هذه القضية، يرى عدد من الباحثين في التاريخ أنّ المشكل الحقيقي لا يكمن في الشخصيات التي لم تكتب مذكراتها بعد أو لم تصدرها وهي على قيد الحياة، بل المشكل الأهم هو أن هناك عددا كبيرا وشخصيات هامة في مسار ثورة التحرير المباركة التي رحلت دون أن تدون شهاداتها حول تيمات ثورة نوفمبر المجيدة، وأهمهم بوصوف، أوعمران محند اولحاج، كريم بلقاسم، قاصدي مرباح، هواري بومدين، قايد أحمد، شريف بلقاسم، مزغري، وبن طوبال الذي كتب مذكراته، ولكن ورثته رفضوا أن ترى هذه المذكرات النور، وربما هي رغبة شخصية من الراحل في عدم إخراجها، خاصة إذا نظرنا إلى سنة بداية تدوينه لهذه المذكرات التي شرع في كتابتها في التسعينيات، وأنها لم تكن وليدة السنوات الأخيرة التي أعقبت رحيله. بالإضافة إلى هؤلاء نجد أن عبد الحميد مهري رحل دون أن يكتب مذكراته، بالإضافة إلى محمد اليزيد وغيرهم من رجال الثورة. وتعد هذه عينة صغيرة عن شخصيات ساهمت بشكل أو بآخر في بلورة مسار وتاريخ الجزائر الثوري. ولعل ما يحسب عليهم أن غالبيتهم عاش بعد استقلال الجزائر وكان من واجبه كتابة وتدوين مساره كي يستفيد منه الباحثون والمؤرخون. بوتفليقة، شريف عباس، السعيد عبادو.. متى تكتبون مذكراتكم؟! قد يغفر التاريخ لمن رحل ولم يترك وراءه أسرار ثورة أنهكت أجدادنا، لكن هل سينصف التاريخ من رفض أن يبوح بأسراره لجيل كامل من الجزائريين ونحن نحتفل بالذكرى الستين لاندلاع الثورة التحريرية المباركة. والسؤال الذي يوجهه غالبية المهتمين بهذا الشق الهام في مسار ثورتنا المباركة هو متى يكتب عبد العزيز بوتفليقة مذكراته الثورية، ماذا سيقول فيها. وغير بعيد عن الرئيس بوتفليقة نجد أنّ أسماء أخرى بارزة في المشهد الثوري لم تبادر لتدوين مسارها وتاريخ المرحلة التي عاشتها إبان حرب التحرير المباركة ومرحلة الاستقلال وتشييد جزائر اليوم، وأمثلة عن ذلك وزير المجاهدين شريف عباس، والأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين السعيد عبادو وغيرهم، ليبقى السؤال الذي يطرح نفسه الآن ونحن على أعتاب الذكرى الستين لاندلاع الثورة التحريرية المباركة إن لم تكتبوا مذكراتكم ونحن على أعتاب فجر جديد للاستقلال فمتى ستكتبونه !؟؟.