لن تسمع أم علي صوته ولا مناغاته، بقيت فقط صورة لما كان يلبسه وعليه مكتوب “صباح الخير يا ماما”. أما شقيقه أحمد فملقى مع والديه على فراش المستشفى، تحرقهم نار الحاقدين وضعفنا، لذا لا تسامحنا يا علي. “صباح الخير يا ماما”، عبارة لم يمهل الغربان من مستوطني بني صهيون ابن العام والنصف ليكبر ويقولها لوالدته بلسانه، كل ما في المكان مرعب، وفي المكان قطعة قماش نُسميها في بلادنا “مريلة” كُتب عليها “صباح الخير يا ماما”.. احترق جزء منها وبقي آخر ليذكر الأم إن كتب لها الحياة بقصة مرعبة تتابعت فصول خسائرها فكان أكثرها فجاعة احتراق ابنها علي دوابشة بنيران حاقدة أشعلها الغربان في منزلهم. لا أحد في البلدة يتخيل ما جرى، بيوت محترقة، وأناس تشتعل النيران في أجسادها، وطفل غض لم يتجاوز العام ونصف العام فارق الحياة، فارقها وقفصه الصدري مذاب.. ما هذه الوحشية؟! وقبل أن أبدأ في تفاصيل الجريمة فإني بلغت جهود مضنية كوني في غزة، والجريمة في نابلس بالضفة الغربية المحتلة فكما تعرفون فرقتنا وباعدت بيننا الحواجز العسكرية التي أقامها الغرباء على أرضنا، والفضل لله تعالي ومن ثم لعائلة الشهيد، فوصلت إلى العائلة عن طريق الهاتف، وعزيتهم وتكلمت باسم جريدة “الخبر” التي نقلت عنها تعازي الشعب الجزائري للعائلة المكلومة، فحملوني رسالة شكر للجريدة وأخرى كما قالوا “ولإخواننا في الجزائر القلب النابض لنا، شكر الله سعيهم”. أحرقني الغرباء.. بعد أن أحرقوك يا ولدي في الثانية والنصف من فجر الجمعة، استفاق الوالد سعد على صوت طرق على نافذة المنزل، ليتفاجأ بمجموعة من المستوطنين تلقي بزجاجة حارقة داخل البيت، لتهب النيران سريعا. والد الشهيد أسرع لإنقاذ أبنائه، فحمل ابنه الأكبر أحمد وتمكن من إنقاذه وإخراجه من المنزل، وعندما عاد لإنقاذ طفله الثاني علي كانت النيران قد انتشرت في كل أرجاء المنزل، وحاول عبثا الوصول إليه، لكن دون جدوى، يروى حسن دوابشة خال الشهيد علي. فالكل في المكان يتحدث كيف كان الأب سعد يحاول إنقاذ أطفاله وزوجته من لهب النيران الحاقدة، فنجح في إخراج أحد الأبناء لكنه لم يتمكن من إنقاذ عليّ بسبب انقطاع الكهرباء وعدم تمكنه من الوصول إليه أو رؤيته. عشرات المواطنين هبوا لإخماد النيران وإنقاذ العائلة، وبعد محاولات حثيثة، تمكنوا من إخراج الطفل علي ولكن شهيدا، حيث وجدت جثته متفحمة بالكامل. أحرقوا الرضيع يا قلب أمه! أحرقوه يا رذاذ الحليب في فمه، أحرقوه وفي قلبه حب، لم يعرف بعدُ كره من أحرقوه، أحرقوا الرضيع يا قلب أبيه، لا الكفولة حمتك، ولا حضني الوضيع، لا ظهر لي يا ولدي! أحرقوا الرضيع يا قلوبنا.. أحرقوها.. تبكي.. وتنوح أحرقوا الرضيع، صباح الخير يا ماما من الجنة! في دوما يعجز الناس عن الكلام من هول الصدمة وأكثرهم يقولون “إنه محمد أبو خضير جديد”، فالكل يستذكر قصة حرق الفتى أبو خضير في مدينة القدس على يد مستوطنين. طفل لم يتجاوز العاشرة يتفقد صورا وألعابا للطفل الشهيد، يتجول بين الركام، يمسح دموعا انهمرت لهول المشهد فيلطخ وجهه بالدخان الأسود الحاضر في المكان، يتمتم ببضع كلمات غير مفهومة، يصرخ بعدها “الله ينتقم منهم”. رجل مسن يتفقد ما تبقى ما باب المنزل المحترق لا يدرك كيف يعبر عن هول ما يرى أمام عينه، فكل ما في المكان ركام، يستجمع شيئا من قواه ليقول: “خلي العالم ييجي يشوف مين هو الإرهابي.. علي وعائلته ولا المستوطنين”. تنقلت عبر هاتفي بين أبناء الحي وجيران الطفل علي وأعمامه وأخواله معزيا ومستفسرا عن تفاصيل جريمة اقترفها أرذل وأحقر خلق الله، زفرت من لساني عبارة لعم الشهيد “ابن وطني ودمي احضنوا أطفالكم فهناك من يحرق الأولاد من الغربان”، انقطع الصوت بيننا فرد علي أخوه الأصغر “لقد ذبحتنا مشاعرك حفظك الله وحفظ غزة وحفظ أهلنا في الجزائر”. وتحولت القاعة المجاورة لقسم الطوارئ في مستشفى “تل هشومير” لخيمة عزاء لعائلة دوابشة، حيث تعالج هناك أم الشهيد وشقيقه أحمد. ويجلس في الغرفة حسين حسن دوابشة والد ريهام، يغمره القلق على سلامة ابنته وحفيده ونسيبه سعد الذي يخضع للعلاج في مشفى “سوروكا” ببئر السبع، ومنذ 3 أيام ينتقل الجد بين المشفيين للاطمئنان على أبناء أسرته، بمشاعر مثقلة بالحزن الذي يلفه على مقتل حفيده علي وإصابة أسرته بحروق بالغة. وفي ليلة الحريق، وصل الجد لبيت ابنته بينما كانت النيران تلتهمه، وعندما سمع بأن حفيده علي لا يزال في الداخل، حاول الدخول لإنقاذه، لكن منع خشية على حياته، وقال “لقد أحرقوا قلبي”. ويضيف الجد حسين “الله فقط سيساعدنا، أنا لا أريد مساعدة من أحد.. فليتمتعوا جميعاً بالصحة ويعودوا إلى بيوتهم مع أولادهم. ولكن كل الاحترام لمن يرغب بالمساعدة.. وأتمنى على نتانياهو بأن يلقي القبض على الفاعلين بأن يحرقهم، كي يشعروا كيف شعر علي وأمه وأبيه وأخيه داخل النار، ونتمنى فقط أن لا يقولوا لنا بأنهم مجانين”. المستوطنون الذين ذكر شهود عيان أن عددهم أربعة، حاولوا كذلك إحراق منزل المواطن مأمون رشيد دوابشة، وأتت النيران على جزء من المنزل، وخطوا شعارات باللغة العبرية مثل الانتقام وانتقام المسيح، قبل أن يلوذوا بالفرار باتجاه مستوطنة “معاليه افرايم بالمدينة”. العيون الباكية ما أكثرها، الكل ينظر إلى وجه محترق وما زالت التفاصيل مرعبة، دفنوا عليّا وهالوا التراب على جسده، قرأوا الفاتحة، وغادروا المكان وهو يقولون “حرقوا الرضيع” هنيئًا لك يا ولدي، علي دوابشة بصباحٍ في الجنة.. وهنيئًا لهم صباحات متخاذلة.. الآن تُشيّع الملائكة الرضيع عليًا إلى الجنة.. من هناك يلقِي على أمه التحية. تشكيل لجان شعبية لحماية القرى من اعتداءات المستوطنين حالة عائلة الشهيد دوابشة في وضع حرج تقبع عائلة الشهيد علي دوابشة في وضع صحي حرج في مرحلة الخطر بالمشافي، نظراً لشدة الحروق التي أصيب بها كل من والد الشهيد سعد وأمه ريهام وشقيقه أحمد. وقال مدير مستشفى “تل هشومير” بأن العائلة بحاجة لعام كامل داخل العناية المركزة بعد اجتياز مرحلة الخطر الحالية، وسط مخاوف من استشهاد الأم في المرحلة الراهنة. وفي نابلس أصيب عدد من الشبان برصاص قوات الاحتلال المتمركزة على حاجز زعترة العسكري، وأغلقت القوات الحاجز بشكل كامل، وشددت من إجراءاتها على حاجز حوارة ومنعت سيارات الإسعاف من الوصول للمكان. ودارت عدة مواجهات على مداخل نابلس وبلدة دوما وأصيب عدد من المواطنين بحالات اختناق بالغاز المسيل للدموع وبالرصاص المعدني المغلف بالمطاط. وقال شهود عيان ل”الخبر”: “إن جنود الاحتلال أطلقوا الرصاص المعدني المغلف بالمطاط وقنابل الغاز المسيل للدموع، صوب المواطنين الذين احتشدوا على مدخل القرية احتجاجاً على جريمة حرق عائلة دوابشة، ما أدى لإصابة عدد منهم، إضافة لاحتراق أشجار زيتون في المنطقة. وأضاف: إنه عرف من بين المصابين الشاب زاهي دوابشة بن عم الطفل الشهيد، الذي أصيب بعيار معدني مغلف بالمطاط في بطنه، وتم نقله إلى مستشفى رفيديا بمدينة نابلس. وبينما لا تجف دماء الطفل علي والجريمة كثف المستوطنون المنفلتون اعتداءاتهم الشريرة ضد الفلسطينيين، حيث اقتحم عشرات المستوطنين المدججين بالأسلحة، وبحماية جنود الاحتلال خربة أرنبة غرب حلحول شمال الخليل، وأدوا طقوساً وصلوات تلمودية فيها. وفي رام الله سيطر مستوطنون على قاعدة عسكرية مهجورة بالقرب من مستوطنة “شيلو” المقامة على أراضي المواطنين شمال المدينة، وفي جنين أحرق غلاة المستوطنين عشرات الدونمات المزروعة بالزيتون. وأمام اعتداءات الغربان، أصدر محافظ بيت لحم جبريل البكري أمر بالعمل على تشكيل لجان حراسة شعبية في كافة مناطق المحافظة، للتصدي لأي محاولة من المستوطنين للاعتداء على المواطنين وممتلكاتهم. كما أعلن محافظ جنين عن تشكيل لجان شعبية دفاعية لصد هجمات المستوطنين في مناطق الاحتكاك في محافظة جنين.