كانت للموت الذي يدرك الإنسان، حتى ولو تحصّن في البروج المشيّدة، حكاية غريبة مع "قاهر للقنابل الذرية" نجا من تفجيرين نوويين تعرضت لهما مدينتان كان فيهما باليابان أثناء الحرب العالمية الثانية، وتذكره الإعلام الدولي منذ مرت أمس الأحد 70 سنة على أسبوع كان من الأسوأ على بلاد العيون المستطيلة وسكانها، ففيه قتلت قنبلتان ذريتان ألقتهما الولاياتالمتحدة على هيروشيما وناغازاكي 210 آلاف، فوراً ولاحقاً بالإشعاعات، ولم يكن هو منهم، بل قهر بعدها أخطر إرهابي بالعالم، وهو السرطان. يكتبون بمعظم اللغات عن تسوتومو ياماغوتشي، المولود بأوائل 1916 في ناغازاكي، أنه كان يعمل فيها بثلاثينات القرن الماضي مهندساً في قسم تصميم ناقلات للنفط كانت تصنعها شركة "ميتسوبيشي للصناعات البحرية" التي كلفته صيف 1945 بالسفر إلى هيروشيما بمهمة عمل، وهناك في الثامنة والربع صباح 6 آب ذلك العام حدث ما احتل ذاكرته طوال حياته، وتلخصه مما قاله هو نفسه حين اعترفت الحكومة اليابانية رسمياً في 2009 بأنه الناجي الوحيد من قنبلتين نوويتين.
وروى أنه كان يسير في الشارع حين سمع هدير طائرة تعبر الأجواء، فنظر ورأى "بي-29" تسقط مظلتين "ونظرت إليهما تهويان، وبعدها بثوانٍ شعّ في عينيّ وميض غطى المشهد كله أمامي، ثم شعرت بحرارة نارية في جسدي، وشعرت كأن طبلتي أذنيّ تتمزقان"، وفق تعبيره عن قنبلة انفجرت بقوة 15 ألف طن من مادة TNT على ارتفاع 600 متر في الجو وقريبة منه 3 كيلومترات. إلا أنها لم تقتل تسوتومو الذي عاد في اليوم التالي مذعوراً إلى ناغازاكي، وفيها علم بأن ما برق في عينيه بهيروشيما ليس إلا قنبلة احتوت على 60 كيلوغراماً من "اليورانيوم 235" المعروفة نواته بشراهتها الكبيرة لامتصاص النيوترونات، بحيث تنقسم باصطدامها فيها، مولدة بالانشطار طاقة هائلة.
وارتاح تسوتومو بناغازاكي يومين في بيته يروي لزوجته وأم أولاده الثلاثة ما لم تصدقه، وحين عاد في اليوم الثالث إلى العمل وجلس يصف لزملائه تجربته مع ما كاد يقضي عليه، دوّى انفجار هائل اهتزت له المدينة التي غطاها الوميض صباح 9 آب، وسريعاً كان أول الشاعرين بأنها نووية كالتي قتلت 80 ألف هيروشيمي بدقائق، وبدقائق قتلت الثانية 73 ألفا من سكان ناغازاكي، لذلك رفعت اليابان الراية البيضاء بعد 6 أيام واستسلمت للحلفاء، مهزومة في حرب عالمية ثانية كانت ستقتل الملايين لو استمرت.
عن النووية الثانية يروي ياماغوتشي أنه ظنها الأولى وقد وصلت إليه آثارها بعد 3 أيام في ناغازاكي، بعد أن أكدت اليابان ذلك العام أنه الوحيد الذي ثبت أنه كان في المدينتين حين استهدفهما الغضب النووي الأميركي في أسوأ أسبوع ياباني بالقرن العشرين.
ومع أنه نجا من التفجيرين وقهر أخطر مرض، وأيضاً نجت زوجته وأولاده من القنبلة الثانية في ناغازاكي، إلا أن الحياة لم تكن نزهة ممتعة مع تسوتومو، ففي سيرته فإن المضاعفات المتنوعة والتحرقات في جلده ظلت تعلّ فيه نفسياً وجسدياً ولم تلتئم، إلى درجة أنه فقد السمع من أذنه اليسرى فيما بعد، وتهالك جهاز المناعة لديه، فأُصيب بسرطان الدم الذي عالجه وقهره وشفي منه تماماً، لكن المرض نفسه نال في 2005 من ثاني أبنائه وقتله.
ولأن مضاعفات القنبلتين بقيت فيه، ومعظمها من إشعاعات متنوعة قتلت آلاف اليابانيين مع الزمن، فقد عاد إليه السرطان ثانية، لا في الدم كما كان، بل في المعدة وهو الأسوأ، فدخل في صراع مع المرض من الأمرّ، ولم يقو عليه، فغاب في 2010 عن دنيا ترك فيها الكثير من نشاط بذله لتحقيق حلم بعالم خال من أخطر سلاح، مع كتب ألفها ومحاضرات ألقاها في مقرات دولية كالأمم المتحدة، ودعوة شهيرة لباراك أوباما قبل وفاته بأشهر، يتمنى عليه أن تنشط أميركا أكثر لنزع السلاح النووي من العالم.