”الدّين المعاملة”، هذه الكلمة يرددها كثير من الناس ويلهج بها كثير من الوعاظ على أنّها حديث نبوي؛ وهذا خطأ فظيع، فلا يجوز نسبة هذه الكلمة لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، وإن كانت جميلة في مبناها صحيحة في معناها، تشهد لها نصوص قرآنية وحديثية كثيرة، ولكن صحّة معناها شيء وجعلها حديثًا شيء آخر؛ فليس كلّ ما استقام معناه وحسن مبناه ينسب للرّسول صلّى الله عليه وسلّم، بل فعل ذلك يعدّ كذبًا عليه، وهو القائل: ”إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ ليسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَن كَذَبَ علَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارر” رواه البخاري بدأت بهذه المقدمة لكون العنوان جاء على شاكلتها تنبيهًا حتّى لا يقع خطأ ولبس؛ فيحسب البعض أنّ هذا العنوان فرع على صحّة هذه المقولة المشهورة!. والمقصود أنّ الحاج - وهو في ضيافة الرّحمن وبين إخوانه المسلمين - أولى من التزم حسن المعاملة وجميل الأدب وفاضل الأخلاق، وإذا كان الخُلق الحسن مطلوبًا من المسلم في كلّ حال وكلّ زمان وكلّ مكان، فهو في حال التلبّس بالعبادة: عبادةِ الحجّ، وفي الأزمنة الفاضلة: أشهرِ الحجّ، وفي المكان المبارك: حرمِ الله وبيته المعظم أوكد وأولى وأوجب. خاصة وأنّ المقام مقام ازدحام شديد، وتضايق في كلّ مكان، وفي كلّ الأوقات حتى في المواضع الشّريفة: في الطّواف، وعند الصّلاة في المسجد الحرام والمسجد النّبويّ كذلك، وفي المداخل والمخارج، وفي الأزقة والشّوارع، وفي المشاعر: مِنى وعرفات ومزدلفة، وفي الرّوضة الشّريفة... الخ، ومن شأن التزاحم والتضايق أن يضجر الناس ويبرمهم، وربما حدثت احتكاكات وملاحاة قد تصل في بعض الأحيان إلى مشاجرات؛ وهذا أمر مرفوض شرعًا مرفوض ذوقًا. بل يجب على الحاجّ وهو في ضيافة أكرم الأكرمين سبحانه أن يكون ليّنًا هيّنًا، سَهْلا سَمْحًا في تعامله مع إخوانه، صابرًا محتسبًا أجره على ربّه؛ وهل ترك الوطن والأهل والولد إلاّ ابتغاء الأجر وطلب الثواب؟!، وليس المقام مقام انتصار للنفس، وإشفاء الصدور، وإشباع للغيظ! وإنّما هو مقام خضوع وخشوع وطاعة لربّ العالمين سبحانه. ونحن نعلم أنّ للمساجد آدابًا مطلوب من المسلمين الأخذ بها والتّزيّن بجمالها، ولا ريب أنّ المساجد المعظمة - المسجد الحرام، والمسجد النّبويّ، والمسجد الأقصى المأسور ردّه الله إلى حياض المسلمين - أحقّ وأولى بهذه الآداب وذلك التّقديس والاحترام، فكلّ المساجد اختار الناس أماكن بنائها أمّا هاته فالله عزّ شأنه هو من اختار مواقع تشييدها تعظيمًا لشأنها {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}. وفي الحديث: «مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ؛ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» رواه مسلم. فالمصلّون يتأذون من الروائح الكريهة والملائكة كذلك، وأساس النّهي عن تلبّس المُصلّي بما ينتج عنه ريح مؤذي هو عدم إيذاء المصلّين والملائكة المقربين، فالقصد الشّرعي هو تحريم إيذاء المسلمين بأيّ شكلّ وبأيّ فعل؛ حتى لو كان ذلك الإيذاء خفيفًا لا يعدو ريحًا كريهة، وحتى لو كان ناتجًا عن عمل مباح كأكل الثوم والبصل والكراث وهو حلال مباح بلا شكّ، تنبيهًا بالأدنى على الأعلى، أيّ إن كان الإيذاء الخفيف (الرائحة الكريهة) الناتج عن مباح (أكل الثوم..) منهيًّا عنه فما زاد عنه في الإيذاء فهو أشدّ نهيًّا وأولى.المسلم مطالب بإحسان المعاملة وإحسان القول وإحسان الفعل، والحاجّ أثناء حجّه أولى من يطالب بإحسان المعاملة وإحسان القول وإحسان الفعل مع إخوانه الحجيج. فمن لم يعظه حجّه، ولم يساعده على ضبط نفسه، ولم يظهر أثره في سلوكه قولاً وفعلاً وانفعالاً؛ فأيّ معنى لحجّه؟! وما أثر إحرامه بهذه الشعيرة العظيمة في حياته عامة وسلوكه خاصة؟! هذا، وإنّ جِماعَ حسن المعاملة: كفُّ الأذى عن النّاس، وقاعدة حسن المعاملة: إن لم تنفع الناس فلا تضرّهم. وقد أقام لنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم القدوة من نفسه في حرصه على عدم إيذاء النّاس في المناسك، عن ابنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قال: «طَافَ النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - في حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ». والمِحجن عصا منحنية الرأس، والحديث متفق عليه. ولو أراد صلّى الله عليه وسلّم وحرص على استلام الحجر الأسود لتنحّى له الصحابة طيبة بها نفوسهم، ولكن ترك ذلك تيسيرًا على الناس ورحمة بهم وإرشادًا لما هو خير، حتى لا يؤذي الحجيج بعضهم البعض من أجل فضيلة استلام الحجر؛ يرتكبون في سبيلها محرمات مخالفات!. عن عمرَ بنِ الْخَطَّابِ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: «يَا عُمَرُ، إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِىٌّ لاَ تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ؛ فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ. إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّلْ وَكَبِّرْ»، ولكن للأسف لا يفقه كثير من الحجيج هذا الهدي السّويّ، ويحسبون حرصهم على تقبيل الحجر أو استلامه دليل قوّة الإيمان، ولو كان طريق تحقيق ذلك معصية الله عزّ وجلّ ومخالفة هدي نبيّه عليه الصّلاة والسّلام. وما هذا إلاّ مثل واحد من المخالفات التي يقع فيها كثير من الحجّاج فيها إيذاءٌ وسوءُ معاملة وسيءُ خلق!. وعلى كلّ لا أحسب الحاجّ تحمّل المشاق: مشاق التكاليف المالية، ومشاق السفر، ومشاق الاغتراب، ومشاق المناسك، ومشاق الحرّ، إلاّ وهو يبتغي الأجر، ويسعى لنيل رضا الله، ويحرص على الترقي في مدارج الكمال، ازديادًا في الطّاعات وزيادةً في الإيمان، ومن هذا شأنه فلا بدّ أن يكون أحرص الناس على حسن معاملة إخوانه قولا وفعلا؛ فعن جَابِر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» رواه الحاكم. وعليه: أكمل الحجيج من سلم الحجيج من لسانه ويده!