قام مخرج فيلم “العائد” للمخرج المكسيكي “أليخاندرو غونزاليس إيناريتو” ببناء أحداث فيلمه على ثقافتين مغايرتين، هما ثقافة الهنود الحُمر وثقافة الرجل الأبيض، من حيث مقاربتهما المختلفة لمسألة الانتقام. فبينما يعتقد الهنود أن مسألة الانتقام قضية موكلة للإله، يعتقد “هيو غلاس” الصياد الذي جسد دوره الممثل “ليوناردو ديكابريو” أن الانتقام بيد الإنسان. ووفق هذا التصور، يكابد الممثل الأمريكي الذي حاز مؤخرا على جائزة أوسكار أحسن ممثل، في هذا الفيلم المثير والمفعم بالأحداث والانفعالات والمشاعر، قسوة لا مثيل لها من أجل العثور على “جون فيتجيرالد” (تمثيل توم هاردي) قاتل ابنه. تستند أحداث فيلم “العائد” الذي يُعرض حاليا بقاعة سينما “ابن خلدون” بالجزائر العاصمة إلى غاية يوم 19 مارس، لقصة حقيقية جرت بالغرب الأمريكي سنة 1823، وبالضبط بين “داكوتا” الشمالية والجنوبية. وتناول مأساة ومحنة صياد أمريكي يدعى “هيو غلاس” (تمثيل ليوناردو ديكابريو)، يفقد زوجته الهندية وابنته الصغرى إثر هجوم لجنود فرنسيين، ثم يفقد ابنه “هوك”، فتسكنه نزعة الانتقام بشكل جنوني ودون رجعة. وإلى جانب الشعور بالانتقام الذي يراود “غلاس”، يصور الفيلم جشع الرجل الأبيض وقسوته وعنفه، بالتركيز على مجموعة من الصيادين الذين يعمل معهم رفقة ابنه كمرشد، وقد وقعوا في كمين نصبه لهم هنود حُمر من قبيلة “أريكارا” وسط غابة تكسوها الثلوج. وبالموازاة مع جشع هؤلاء الصيادين ووحشيتهم، تبرز قسوة الهنود الذين يسعون للحصول على ما جمعه الصيادون من الفرو لمقايضته بأحصنة تمكنهم من تخليص “باواكا” ابنة زعيمهم “ايلك دوغ”. يندفع الصيادون وهم يتلقون وابلا من الضربات ويسقطون الواحد تلو الآخر، إلى قاربهم في مشاهد فائقة الإثارة. وفي القارب تبرز وجهات نظر مختلفة بخصوص السبيل الأمثل لبلوغ حصن “كييوا”، والتخلص من ملاحقة هنود “أريكارا”، والنجاة من الموت، فتظهر أول المشدات بين “غلاس” و”فيتجيرالد” المهوس بتخليص ثروته مهما كلفه الثمن. ويعد “فيتجيرالد” بمثابة شخصية ذات مغزى مثير في الفيلم، لما تعكسه من اضطراب ورغبة وتعبير عن الجشع وقدرة على القسوة والشر. وبعد أن قرر النقيب هنري (دومنهال غليسون) الأخذ باقتراح “غلاس” وترك السفينة وبلوغ الحصن سيرا على الأقدام، يتعرض هذا الأخير، وهو وحيد في غابة كثيفة وسط الضباب، لهجوم من قبل أنثى دُب “الغريزلي”، تنهش لحمه وتغرز أنيابها في كامل جسده. ينجو “غلاس” من الهجوم، لكن شجاره العنيف معها جعله قريبا من الهلاك، فيأمر النقيب هنري رجاله بمواصلة الرحلة الشاقة، تاركا ثلاثة منهم لمواراة “غلاس” الثرى على نحو لائق عندما يلفظ أنفاسه، ويتعلق الأمر بكل من “فيتجيرالد الذي وافق على القيام بالمهمة حصولا على بضعة دولارات، والفتى “بريدجير” (يؤدي دوره الممثل البريطاني ويل بولتر) إلى جانب “هوك” نجل “غلاس” (يؤدي دوره فوريست غودلاك). وأثناء مغادرة باقي أعضاء فرقة الصيادين الذين سقط منهم ثلاثة وثلاثون، يحاول “فيتجيرالد” القضاء على “غلاس” ويقتل ابنه ويدفن خصمه “غلاس” حيا، ويفر رفقة الفتى “بريدجير”، بعد أن تعرضوا لهجوم آخر من هنود قبيلة “أريكارا”. ومن هنا، يواجه ديكابريو قدره ويسعى للبقاء حيا وسط غابات مُقفرة وقمم جبال مهيبة، قام بتصويرها “إيمانويل لوبسكي” الذي سبق له أن عمل مع “إيناريتو” في فيلم “الرجل الطائر” بفنية عالية، وحصل على أوسكار أحسن تصوير بفضل لقطات مثيرة للدهشة في فيلم “العائد”. هذه المشاهد الخارجية التي تصور طبيعة قاسية وخلابة في نفس الوقت، ترافقها قدرة “ديكابريو” على بذل جهد ما فوق إنساني، يعتبر بمثابة النقطة القوية في الفيلم، التي أنست المشاهد لحظات الصمت والبساطة المفرطة لحبكته، ففي كثير من الأحيان، وبالأخص عقب فقدان “ديكابريو” صوته بعد صراع يشد الأنفاس مع أنثى الدُب، يسود الصمت وتختفي جماعة الصيادين تماما، وكذلك “فيتجيرالد” و”بريدجر”، ولا يظهر سوى “ديكابريو” وهو يزحف على منكبيه، بعد أن خرج من القبر الذي وضعه فيه “فيتجيرالد”. هذا السير المُستمر، وهو يستغرق فترة طويلة، أثر على حبكة الفيلم لدقائق طويلة، فباستثناء تصوير لحظات مقاومة الموت، لا نعرف أين يسير الرجل، علما أن مدة الفيلم تتجاوز المائة وخمسين دقيقة، بيد أن موسيقى الياباني “ريوشي سكاموتو” الذي تعامل مع عدد من السينمائيين الكبار أمثال “بريان دي بالما” والإسباني “بيدرو ألمودوفار” ومبدع موسيقى فيلم “الإمبراطور الأخير” للمخرج “برناردو برتولوتشي”، التي مكنته من افتكاك أوسكار أحسن موسيقى تصويرية سنة 1987، خلقت إثارة أخرى، وجعلت المشاهد يبقى مشدودا ويتابع الفيلم بإعجاب. ويظل الأمر كذلك يخضع لسير “ديكابريو” على الثلج، إلى أن نسمع هنديا من قبيلة “الباوني” التقاه “غلاس” خلال سيره، يردد “إن أمر الانتقام موجود بين يدي الإله”، فيدرك المشاهد أن “ديكابريو” يسير مدفوعا بالرغبة في الانتقام، كالأعمى، ولا شيء يثنيه عن ذلك. لم يعثر “إيناريتو” على وسيلة أخرى لكسر الملل الذي قد ينتاب المشاهد، إلا إضفاء صبغة إنسانية على “ديكابريو”، عبر استرجاعه أحداثا ماضية، على شكل حبكات ثانوية متنوعة تعيد للفيلم إثارته، تتخللها صور لزوجته وكلامها الذي يُعبر عن ثقافة الهنود الحُمر، مثل أن تخبره أن الشجرة بجذورها العميقة لن تؤثر عليها العاصفة، وهو ما يمده بطاقة أخرى من أجل البقاء. وإلى جانب هذا الاسترجاع، يقدم الفيلم بشاعة أخرى وجشعا موازيا للرجل الأبيض، يتمثل في تجار فرنسيين بزعامة “توسان”، لا يقلون قسوة، يتعاملون مع الهنود الحمر بمنطق المقايضة، ويتجرأون على الحديث عن “الشرف” وقد نهبوا أرضا بكاملها. لقد جعل “إيناريتو” من فيلمه لحظة طويلة مُمتعة مليئة بالإثارة، تجعل المشاهد يتابع أطوارها إلى آخر لحظة من رغبة “ليوناردو ديكابريو” في الانتقام، على ضفاف “النهر الأحمر” بولاية “داكوتا”، حيث تنتشر بقع الدم الأحمر على الثلج، في إشارة من المخرج إلى فيلم آخر صنع مجد “ديكابريو” هو “عصابات نيويورك” لمارتن سكورسيزي.