تتوالى دعوات تأجيل الانتخابات الرئاسية بمبررات شتى أبرزها توفير مزيد من الوقت لإمكانية تحقيق توافق "افتراضي" على من يقود مرحلة انتقالية تنهي عهد رئاسة عبد العزيز بوتفليقة، لكن هذه الفكرة على فرض أنها دخلت أجندة السيناريوهات التي يضعها النظام تبقى تعوقها الكثير من الموانع الدستورية والسياسية. لا يوجد ما يتباهى به النظام السياسي الجزائري في الرد على من ينتقد غياب الديمقراطية في البلاد سوى التأكيد على أن الجزائر هي من البلدان القليلة في العالم الثالث التي تجرى فيها الانتخابات بكل أنواعها في موعدها، التي تعني، حسبه، أن ثمة تقاليد ديمقراطية بدأت تترسخ تدحض هذه "الرؤية السوداوية" للواقع السياسي في الجزائر. هذا ما يعني أن تنظيم الانتخابات في موعدها، بغض النظر عن نزاهتها وطريقة تنظيمها، يُعدّ في حد ذاته أهم مكسب لدى النظام ينبغي الحفاظ عليه لغاية تسويقه والمحاججة به دوليا. أما على الصعيد الداخلي، فإن مجرد تأجيل الانتخابات يعني اعترافا صريحا من النظام بوجود أزمة سياسية في البلاد، وهو ما اجتهد في إنكاره طيلة سنوات ردّا على مبادرات في المعارضة دعته إلى الانتقال الديمقراطي تارة وإلى الإجماع الوطني تارة أخرى وإلى التوافق الوطني أخيرا، دون أن يعيرها أدنى اهتمام، لأنها، حسبه، تتنكر لكل المكاسب التي حققتها الجزائر سياسيا واقتصاديا. وكانت شخصيات النظام في كل ذلك تحيل المعارضة إلى الانتخابات الرئاسية إذا كانت تريد الوصول إلى الحكم، لأنه لا معنى لأي توافق أو إجماع بينما المواعيد الانتخابية الدستورية مفتوحة أمام الجميع. هذا المنطق الذي تمسكت به السلطة منذ سنوات يبدو من الصعب أن تتخلى عنه بهذه البساطة التي تجعلها تنخرط في مسار جديد يؤكد فعلا وجود خلل في منظومة الحكم، يجعلها عاجزة عن ضمان التداول الطبيعي على منصب رئاسة الجمهورية ضمن الآليات والقوانين الموجودة في الدستور. فإذا كان مبرر تأجيل الانتخابات أن الرئيس الحالي غير قادر على الاستمرار في قيادة البلاد لعهدة رئاسية أخرى، فإن ذلك ينسف تماما فكرة أن الجزائر "دولة مؤسسات" ويثبت من حيث لا يريد النظام السياسي أنه غير قادر على تنظيم انتخابات نزيهة تفرز رئيسا يختاره الشعب وليس رئيسا يتوافق عليه النظام ويصدره للشعب من أجل تزكيته في "تمثيلية انتخابية". لكن اللافت أن دعوات تأجيل الانتخابات باتت تصدر عن شخصيات محسوبة على النظام السياسي ولم تعد مجرد اقتراحات تنطق بها المعارضة اليائسة من كل محاولات إقناع السلطة باعتماد قواعد ديمقراطية سليمة، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة حول مدى وجود رغبة في أعلى هرم السلطة لتبني هذا الخيار. ذلك أن الانتقال المفاجئ لعمار غول، رئيس تجمع أمل الجزائر، من دعوة الرئيس إلى الترشح لعهدة خامسة إلى اقتراح مبادرة "الإجماع الوطني لبناء جزائر جديدة" يمكن أن تتأجل على أساسها الرئاسيات، وكذلك توقف حزب جبهة التحرير الوطني بعد إعادة رسكلته الأخيرة عن دعوة بوتفليقة للترشح وحديثه فقط عن دعم برنامج الرئيس، يعطي مؤشرات على أن ثمة من يدفع لتأجيل الانتخابات داخل النظام السياسي. وتُظهر هذه الدعوات عندما تنطلق من داخل النظام ومحيطه أن احتمال العهدة الخامسة لم يعد مؤكدا، بما دفع أصحاب القرار إلى البحث بسرعة أمام ضغط الوقت عن مخرج يتيح الاتفاق على مرشح جديد يضمن التوازنات الكبرى بين أركان النظام، في ظل أن الخيار الديمقراطي الصرف عبر ترك الشعب يختار رئيسه لا يزال، في وارد النظام، غير قابل للتحقق في الفترة الحالية. وقد يضمن "التمديد" في العهدة الحالية حلّا عمليا عبر منح مزيد من الوقت للرئيس الحالي في الحكم، ما دام غير قادر على الاستمرار في عهدة رئاسية أخرى لرغبة منه أو بسبب ظروفه الصحية. هذه النقطة، حاول أن يُمايز بها عبد الرزاق مقري، رئيس حركة مجتمع السلم، بين فكرة التمديد التي تعتبر عنده أسوأ من العهدة الخامسة، وبين دعوته لتأجيل الانتخابات لمدة سنة التي قال إنها "تستبق فرض رئيس في ظروف غامضة في ظل تضاؤل فرص العهدة الخامسة وتمنح أملا في الوصول إلى مرشح توافقي في فترة أقصاها عام"، وهو ما يبدو كذلك مستبعد التحقق في ظل الطموحات الكبيرة التي تسكن المحيطين بالرئيس ممن يرون أنفسهم الأحق بخلافته، وهؤلاء لا يمكنهم بأي حال من الأحوال أن يكونوا مرشحين توافقيين بسبب رفضهم من قطاع واسع من المعارضة. وعلى فرض أن النظام السياسي يوجد فعلا في مأزق يجعله ينزع عن نفسه كل الاعتبارات السياسية والدولية المحرجة له في حال قرر تأجيل الانتخابات، سيكون السؤال وقتها حول "الإخراج الدستوري" الذي سيعتمد لمسألة التأجيل. فالدستور لم ينص على مسألة تمديد الفترة الرئاسية إلا في حالة واحدة تحددها المادة 110 بما يلي: "يُوقَف العمل بالدستور مدة حالة الحرب ويتولى رئيس الجمهورية جميع السلطات. وإذا انتهت المدة الرئاسية لرئيس الجمهورية تمدّد وجوبا إلى غاية نهاية الحرب". والجزائر كما هو معلوم ليست في حالة حرب. وحتى ما يُسوّق إعلاميا من أن حل البرلمان قد يكون المسوغ لتأجيل الانتخابات الرئاسية، ليس صحيحا عند الخبيرة الدستورية فتيحة بن عبو التي سبق لها التصريح ل"الخبر" بأنه لا يوجد أبدا ما يمنع تنظيم الانتخابات الرئاسية في وقتها في حال تم حل البرلمان، بل إنها اقترحت حل البرلمان وتنظيم التشريعيات والرئاسيات في يوم واحد. وأمام هذه الحالة، قد لا يبقى سوى تعطيل العمل بالدستور والدخول في مسار تأسيسي جديد، وهذا في حد ذاته إهانة للفترة السابقة التي كانت تشدد شخصيات الحكم على أنها تضمنت إصلاحات ترسخ الديمقراطية ودولة القانون.