من شرفتها بشارع محمد الخامس وسط العاصمة، أطلت ربة بيت في الخمسينيات من عمرها لتشاهد جحافل المواطنين المتدفقين من مخرج نفق ساحة موريس أودان في مسيرات حاشدة، الجمعة الماضية، ترفض عهدة خامسة لرئيس الجمهورية.. تُمسك باليمين خمارها الذي تتوشح به وترمي باليسار قارورة مياه معدنية وسط المتظاهرين العطشى، في مبادرة تجاوب معها المتظاهرون بالهتاف وبترديد شعار "خاوة خاوة"، ثم واصلوا مسيرهم نحو قصر الرئاسة بالمرادية. تخللت مسيرات الجمعة مشاهد إنسانية وتضامنية أذهلت المتابعين وحملت رسائل ومؤشرات على أن الهبة تلقى تأييدا ودعما من ربّات البيوت والشيوخ الذين لا يقوون على مجاراة ومسايرة هذا الطوفان الشعبي، مخالفة بذلك توقعات ومخاوف كان قد سبق تداولها. غالبا ما يصاحب الحشود البشرية والمظاهرات تدافع وضغط وتعنيف، غير أن "الخبر" عايشت أثناء تغطية الحدث محطات استثنائية ورصدت عدة لحظات "هادئة" في وقت الصخب.. فهذه فتاة أطلت من النافذة حاملة علبة مليئة بالحلويات التقليدية تحاول إلقاءها وسط المتظاهرين، وآخرون في ولاية برج بوعريريج قاموا بتنظيف الشوارع حال ما انتهوا من التظاهر.
الحب في زمن الغضب
في شارع كريم بلقاسم المعروف شعبيا ب"تيليملي"، حيث يمر الوزير الأول أحمد أويحيى يوميا ليذهب إلى مكتبه والذي كان اسمه متداولا بقوة على ألسنة المتظاهرين، وجد المحتجون قارورات مياه معدنية موضوعة على قارعة الرصيف.. فارتووا بها للتخفيف من حدة العطش الذي لازمهم من فرط ترديد الشعارات والأغاني المطلبية. وفي غمرة هياج الجماهير، استوقفنا مشهدا آخر بساحة أول ماي لشباب متظاهر يحملون ورودا بيضاء اللون يوزعونها على عناصر مكافحة الشغب وحفظ النظام، الذين تسلموها بارتياح وبرسم ابتسامات خفيفة على وجوههم، كاسرين بذلك الأجواء المشحونة التي عادة ما تتمخض عنها مناوشات ومواجهات بين الطرفين. وفي الساحة ذاتها، شوهد عناصر شرطة بالزي المدني تابعون لأمن ولاية العاصمة يتعاملون مع المتظاهرين الذين كانوا في قمة الثوران والحماسة خارج الضوابط والتعليمات التي عادة ما تتميز بالصرامة والجدية المفرطة، حيث كانوا يلتمسون من المواطنين بأسلوب ليّن، على غير عادتهم، التزام حيز التظاهر وعدم اختراق الحاجز الذي أقامه أعوان الأمن، ليتجاوب معهم المواطنون بالموافقة والامتثال، قبل أن يلتئموا في مسيرة توجهت نحو ساحة البريد المركزي وانصهرت في حشد كبير سار نحو قصر الرئاسة عبر مبنى الوزارة الأولى.
الجيش والشعب..
وفي موقف إنساني آخر ساهم في تخفيف التوتر والكهربة التي تميزت بها الحشود، رصدت "الخبر" عناصر من الجيش الوطني الشعبي يطلون من ثكنة مجاورة لحديقة صوفيا بساحة البريد المركزي، يلوحون للمتظاهرين بالأيدي المتماسكة التي تشير إلى الاتحاد، لتصدح حناجر الجماهير هاتفة "الجيش الشعب.. خاوة خاوة". وككل المظاهرات والاحتجاجات، شوهد شباب دفعهم الحماس والغضب إلى محاولة تكسير المنشآت العمومية وإشارات المرور بشارع محمد الخامس نكاية في السلطة، بوصفها، في نظرهم، من يقف وراء ترشيح الرئيس ضد مشيئة الشعب، لكن المتظاهرين تدخلوا فورا ومنعوا حدوث تخريب وعنف للإبقاء على الطابع السلمي والهادئ للمسيرات ولكي لا يتم نعتها ووصمها بأعمال شغب.
محلات المجوهرات
وعلى غير العادة، ظلت أغلب أبواب المحلات التجارية مفتوحة خلال المسيرة التي دعت إليها حركة "مواطنة" أول أمس.. مشهدٌ قلما يحدث في الحركات الشعبية الضخمة، حيث يسارع أصحاب المتاجر إلى غلق الأبواب والهروب إلى البيوت مخافة حدوث انزلاقات وأعمال تخريب قد تكبدهم خسائر فادحة، مثلما يجري هذه الأيام في فرنسا من أعمال تخريب وتحطيم للمحلات، رافقت حركة احتجاجية مطلبية سلمية تسمى "السترات الصفراء". ففي شارع ديدوش مراد الذي كان مسرحا لوقفات ومظاهرات أول أمس، شوهدت الكثير من المقاهي والمحلات وحتى بائعو مجوهرات مفتوحة، ولم يغادر أصحابها المكان سوى قلة منهم، بل بدوا في أريحية من أمرهم وتسمروا في المداخل يشاهدون مجريات الأحداث. هذه المفارقة بين ضفتي المتوسط شكلت مفخرة لملايين الجزائريين بالداخل والخارج، حيث زخرفوا صفحاتهم بمنصات التواصل الاجتماعي بصور تُقارن بين الحالتين، كما لو أنهم يريدون بعث رسالة لمن ظل يتبنى ويردد فكرة أن "الشمال متحضر والجنوب متخلف".
وعي سياسي
وسارت الحشود على هذا النحو ترافقها حالات إنسانية وتضامنية لم يكن يتوقعها أكثر الجزائريين تفاؤلا، بالنظر إلى حساسية الوضع الإقليمي الملتهب وتجارب دول عربية شقيقة فاشلة، حشرت فيها قوى غربية أنفها باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، غير أنها لا تلبث أن تنتهي بدمار وخراب، مثلما جرى مع ما كان يسمى جبهة الرفض: العراق، ليبيا، اليمن، سوريا والتي كانت من بينها الجزائر، وهي مخاوف تحولت إلى حجج استغلها واستعملها سياسيون موالون لرئيس لصد الشعب عن خيار الشارع لإيصال صوتهم. وفي هذا الصدد، سألت "الخبر" أحد المتظاهرين حول ما إذا كانوا واعين بالمخاوف التي رفعها بعض الرسميين، فأجاب ساخراً: "نحن مدركون بأن ثمة قوى خفية لها يد في إحداث الفوضى بعدة أقطار عربية، لكن هذا لا ينطبق علينا.. نحن استثناء". وواصل المتحدث بحماس يقول: "ثمة قوى تتمنى سقوط الجزائر بسبب مواقفها المعادية للإمبريالية العالمية وثبات موقفها من القضية الفلسطينية وكذا سياستها الاقتصادية القائمة على قاعدة 49/41 التي تستاء منها الاقتصاديات العالمية وتفضل نموذج الانفتاح، حيث يكون الباب مفتوحا على مصراعيه للمستثمرين الأجانب وحرية اكتساب حق امتلاك الأراضي بالجزائر، وهو ما سيؤول إلى إفرازات سلبية كتعاظم لوبيات خارجية وانكماش السيادة، بما يسمح لها بالمساهمة في صناعة القرار السياسي والسيادي للبلد". لكن بالمقابل "لا يمكن لهذه المخاوف أن تتحول إلى فزاعة يستعملها البعض لتكميم الأفواه وكبح إرادة الشعب عن ممارسة سيادته واختيار قياداته بكل حرية ونزاهة، ولا يمكن له أن يجعلنا ننبطح ونقبل بالوجه الآخر من الفساد والتلاعب بالمال العام ودوس كرامة البلاد"، يختم المتحدث كلامه وينصرف ويتوارى وسط الجموع التي كانت قد بلغت قصر الشعب، على بعد نحو 500 متر على القصر الرئاسي.. ".