الأوبئة، مثل الحروب والكوارث الطبيعية الكبرى، محن تهزّ البشر، أشخاصا ومجتمعات، لتحسسِّهم كم أنهم سواء في الضعف، حتى وإن ظلوا مختلفين في القدرة على مواجهة البلاء. كما تتميز بكونها حاسمة لأنها تفرض على البشر مراجعة الذات وإدراك تغير الأحوال على أساس أن هناك ما قبل وما بعد المحنة. بطبيعة الحال، الأوضاع الماثلة في الميدان تتطلب الإسراع في تعبئة كل ما هو متوفر من قدرات المجتمع لمواجهة الطارئ. لكن ذلك لا يمنع من محاولة التجرد عنها للنظر في ما يمكن أن يخبؤه لنا المستقبل انطلاقا من الكيفية التي يتطور بها البلاء، لاسيما وأن التغييرات المحتملة لن تأتي نتيجة المحن فقط، بل أيضا نتيجة الطريقة التي يكون الناس قد عاشوها بها. هذه خواطر عامة أردت من خلال عرضها، من دون تفصيل، أن ألفت الانتباه إلى أن المحنة الحالية قد تكون بصدد إفراز تمثُّل جديد في مجال التنظيم البشري والعلاقات داخل البلد الواحد وفي ما بين بلدان العالم. هذا التمثّل الجديد لابد أن يتساوق مع ما استطاع البشر تحقيقه من رقي إلى اليوم، لاسيما على مستوى تقنيات الإعلام والاتصال، الذكاء الاصطناعي، وكذا على مستوى الأفكار. لكن يجب أيضا أن يتكفل بتلك الأضرار الإنسانية والبيئية التي ما فتئ هذا الرقي نفسه يتسبب فيها. اليوم، ألا تتنفس العاصمة الصينية، بيجين، ملئ رئتيها؟!
كما هو متوقَّع، سيتبلور التمثّل الجديد على مستويات ثلاثة: 1. الجيوسياسي
الاتجاه نحو العولمة سيكون من شأنه تسريع التحول التدريجي – الملحوظ منذ بداية العقد الأخير – لزعامة العالم من الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى الصين، أي من "الغرب" إلى "الشرق" (الأصح "المغرب-المشرق")، ماديا ثم ثقافيا، بحيث سيأتي اليوم الذي سنتحدث فيه عن "حضارة شرقية" عوض "حضارة غربية" بعدما سادت هذه الأخيرة العالم قرونا عديدة. فهل سيقع مثل هذا التحول في كنف الهدوء نسبيا من دون أن يفضي، لفرض ذاته، إلى مواجهة ما؟ ومع ذلك، يبقى هذا الانتقال مشروطا بإصلاح عميق في منظمة الأممالمتحدة، لاسيما جهازها التنفيذي، مجلس الأمن، في اتجاه تقوية آليات النظام العالمي الجديد تكون أكثر إنصافا، لكن أيضا أكثر إلزاما وتضامنا دوليا تمليه وحدة المصير البشري. وحدة المصير هذه هي، بالذات، التي تجعل "الحكومة العالمية" المتوقَّعة تفرض شكلا من أشكال الوصاية على تلك الدول المهزوزة الأركان. أما من ناحية "القارة العجوز"، وخلافا لما يدعيه البعض، سيعرف الاتحاد الأوروبي تقوية بعد إدراكه أنه لم يكن متحدا بما فيه الكفاية! لقد بدأت أوروبا تستعد للنظام العالمي الجديد من دون حرج؛ مثل باقي القارات، كل بحسب ظروفه. وعليه، من المفروض أن يفضي التصور الجديد للنظام العالمي إلى الخفض من حدة السباق نحو التسلح الذي كثيرا ما غلب عليه الطابع الصبياني. جيوش العالم ذاتها ستعرف تغييرا في دورها كي تكون قادرة على الاستجابة إلى حالات خارج النطاق العسكري.
2. السياسي
باختصار، ستعرف العلاقات بين السلطة السياسية والمواطن نوعا من الابتذال يفقدها تلك الهالة الزائفة التي لم تعد تجدي نفعا. سيتمثل ذلك، خصوصا، في "وظفنة" (من وظيفة) المسؤولين الذين يصبح من الممكن عزلهم وفق آليات تتصل بمدى قدرتهم على تحقيق النتائج المنشودة وليس فقط على أساس انتخابات تتتابع من غير أن تأتي بالجديد. أي أن الأمر سيتعلق بإبرام "عقد اجتماعي" جديد سيفضى، حتما، إلى التقليص في نفقات الدولة الخاصة بالتسيير من خلال الخفض التدريجي في عدد من الامتيازات والبروتوكولات التي غالبا ما تنسي في ما هو أهم. في هذه الأثناء، ستتجه المجتمعات والأفراد نحو مزيد من الاستقلالية عن السلطة السياسية تزامنا مع تقوية تنظيمات المجتمع المدني وعلاقاتها بنظيراتها في العالم؛ الأمر الذي سيقلل من شأن دور الأحزاب السياسية المعهود ومن أهمية مختلف أيديولوجيات السلطة، مع إعادة النظر في جدوى النظام الانتخابي المعهود.
3. الاجتماعي السياسي
من المتوقع أن يكون من بين النتائج التي سيفضي إليها الوباء الحالي إعادة النظر في نمط الاستهلاك والإنتاج السائدين اليوم اللذين لا يخضعان لأي ضابط سوى الربح والتنافس. سيعلِّمنا الوباء الذي ألمّ بنا أن حياة البشر يمكن أن تكتفي بأشياء أبسط، من دون إحداث أضرار، لا للطبيعة والإنسان، نتيجة نمط استهلاكي جامح. وفي الواقع، أثناء مواجهتها للوباء، تتيح المجتمعات البشرية لنفسها الفرصة لاستكشاف إمكانات أخرى من أجل حياة أسلم تنحو في اتجاه مزيد من الاقتصاد ومراعاة البيئة. هذا، ولاشك أن الخروج من النظام الاجتماعي الاقتصادي السائد حاليا سيحث على إيلاء أهمية خاصة للقيمة الإنسانية من خلال التركيز على عدد من المجالات الحيوية مثل الحد الأدنى من الحياة المادية، التربية والتعليم، الصحة، إلى ذلك المستوى الذي سيجعل فكرة "وحدة المصير" واقعا حيا. أما على مستوى إدارة احتياجات المجتمع، فإن الافتراضي والذكاء الاصطناعي سيحلان تدريجيا محل التعامل المباشر في إنتاج السلع والخدمات، الإدارة، بل وحتى في التعليم. أخيرا، سيشهد العالم تسارعا في وتيرة الانتقال من النمط الذكوري إلى النمط الأنثوي، بكل ما قد يترتب على ذلك في مجال العلاقات بين المرأة والرجل (هكذا، بهذا الترتيب!). أما في ما يخص بلادنا أولا وقبل كل شيء، يجب أن ندرك أن جدار الخوف من نظام حكم فاسد قد انهار إلى درجة أن هذا الأخير غالبا ما أصبح محل سخرية من طرف المواطنين جهارا، لاسيما من خلال شبكات الاتصال الاجتماعي. ولا شك أن الوباء الحالي سيعدُّه ضمن ضحاياه ! هكذا، ستعرف العلاقات بين "الحاكم والمحكوم" و"القمة والقاعدة"، كما تعودنا قوله، انقلابا سيتجسد، تدريجيا، من خلال المواطنة الكاملة. على أية حال، هذا هو الشرط الذي سيمسح لمجتمعنا التحول إلى مجتمع مدني فعال، تجاه مكوناته واتجاه الأطر الرسمية، مجتمع مسؤول ومسائل. لكن لن يتم له ذلك إلا إذا أدرك أنه مجتمع طغت عليه الفوضى، بما في ذلك على المستوى النظافة، على الرغم (أو بسبب) وجود بيروقراطية متشددة. سيصبح عون الدولة، في أي مستوى من المستويات، مسؤولا مباشرة أمام المواطن. وهذا ما بدأنا نلحظه، منذ بداية الحراك، في الزيارات الميدانية التي تقوم بها السلطات المحلية حيث يواجهها المواطنون بقوة. لقد ولّى زمن عون الدولة "الحڤار"، أو الذي يختفي وراء رؤسائه للتهرب من القيام بمسؤولياته تجاه السكان. في الوقت ذاته، وبالنظر إلى السياق الوطني، سيفرض البلاء على مجتمعنا مساءلة الذات وطريقته في الممارسة الاجتماعية المتميزة بالاجتياح. سيؤدي مثل هذا التطور بالناس عندنا إلى اتخاذ زمام أمورهم بأيديهم عوض الاتكال أو التوكّل، مقللين من العودة إلى أمجاد الماضي، الحقيقية منها والمزعومة، في تبرير مواقفهم وتصرفاتهم الحاضرة والتخلص من تلك العادات البالية حتى في طريقة إلقاء التحية. سيكون من شأن مثل هذه التطور بروز عقلانية تحل محل الفكر الخرافي والتظاهر بالتقوى فينفتح المجال إلى علمانية تدريجية واندماج اجتماعي أكمل بفضل تنامي روح المواطنة والتضامن الاجتماعي الذي تقتضيه وحدة المصير. ومع ذلك، يجب أن نتوقع من نظام الحكم الفاسد، السائد منذ الاستقلال، رفضه التنحي رغم أكثر من سنة من الحراك. ولعله بصدد استغلال توقف هذا الحراك (بسبب الوباء) للعودة بقوة. ختاما، من الواضح أن الانتقال إلى التمثّل الجديد، على المستويين الوطني والعالمي، سيبقى مرهونا بحدة الصدمات الناجمة عن الوباء وكذا بدرجة استيعابها على مستوى الفرد الواحد كما على مستوى المجتمع بأكمله. لكن لابد من الإشارة، في الأخير، إلى أن الانتقال إلى التمثّل المذكور لن يبزغ من العدم: الصدمات التي ستعرفها البشرية بسبب الكوفيد19 لن تكون إلا مسرِّعة للعملية.