بقلم: صلاح سالم ربما كان النزوع إلى أنسنة الدين سمة أساسية في الفكر الغربي المعاصر، يجري تعميمها بدرجات مختلفة من الحدة والنجاح في باقي المجتمعات التي سارت على طريق الحداثة شوطاً أو آخر. وهو أمر يمكن تفسيره بالرغبة المحمومة لدى المجتمعات الغربية، في الهروب من المؤسسة الدينية التي بلغت أعلى درجات تشكلها في العصور الوسطى، أو لدى المجتمعات الأخرى في الخلاص مما يقارب تلك البنية البطريركية، أو يلعب دورها على استحياء تحت مسميات مختلفة. ومن ثم يمكن الادعاء بأن مؤسسات الهيمنة الدينية، هي التي تفقد أهميتها تدريجياً في المجتمعات الحديثة، وليس الدين ذاته كعقيدة. غير أن هذا النزوع إلى الأنسنة قاد البشرية في اتجاهين مختلفين، على صعيد الحضور الغيبي في عالمنا.. الاتجاه الأول يتمثل في صيرورة عقلنة للوجود، فرضها نضوج التاريخ البشري، على نحو منح للعقل الإنساني حرية أن يجول في مناحي الوجود، مقدماً إسهاماته وتصوراته. وبعد أن كان الدين يمتد إلى كل شيء، أخذت الوظائف السياسية والاقتصادية والعلمية تخرج شيئا فشيئا من إطار الدين لتأخذ طابعاً دنيوياً، وهي صيرورة طويلة جدا وعميقة جدا، ترجع إلى زيادة التخصص وتقسيم العمل الإنساني، تلك التي لم تبدأ في مكان معين أو لحظة بذاتها، بل تطورت بلا توقف عبر الجغرافيا وعلى مدى التاريخ. تفضي العقلانية، بهذا المعنى، إلى علمنة السياسة، وتستدعي المثل التنويرية إلى قلب النظم السياسية، ضمن عمليات البحث عن أفضل الآليات العقلانية لإدارة الدولة كمجال محايد لممارسة السلطة وتبادلها. ولكنها لا تقود حتماً إلى علمنة الوجود، إذ لم يكن مطلوباً ولا مرغوباً أن يفقد الدين كل قيمته أو يعلن موته بفعل نمو العقلانية، فحضور العقل لا يفترض بالضرورة غياب الإيمان. أما الاتجاه الثاني فيتمثل في صيرورة علمنة للوجود، تتنامى في مجتمعات الما بعد (ما بعد الصناعة، ما بعد الحداثة.. الخ)، بفعل الثورات العلمية وارتقاء الأدوات التكنولوجية، والنظم الإدارية التي تنتهجها تلك المجتمعات في إدارة العلاقة بين أطرافها ومكوناتها. وهي صيرورة تؤدي تدريجياً، من دون إعلان عن ذلك وأحيانا من دون وعي به، إلى تفكيك الدين في الوجدان الفردي ونفيه عن الوجود الاجتماعي، فلا تنحيه فقط عن السياسة، بل تحرمه أيضا من دوره في صوغ نظم القيم السائدة والتقاليد الاجتماعية. هذه الصيرورة تبدو منطقية تاريخيا في السياق الغربي كتتمة لصيرورة العلمانية السياسية في دوله، ونتاجا موضوعيا لتنامي العقلنة والتقنية الفائقة في مجتمعاته. أما في المجتمعات العربية الإسلامية، فتبدو صيرورة العلمنة الوجودية أقرب إلى المفارقة، حيث العلمانية السياسية غير راسخة في أنظمة حكمها، ولا تزال تعاني من التوظيف السياسي للإسلام من قبل تيارات دينية تسعى إلى قسرها على العيش ضمن نمط حياة تقليدي يرسم معالمه فهم خاص للنصوص، وتفسير منغلق لما توحي به التجربة التاريخية للرعيل الأول من المسلمين. جوهر المفارقة إذن، أن العلمنة الوجودية هي نتاج لنقص العقلانية العربية الإسلامية، وليس لتمددها أو تجاوزها. فالجماعات التي ترفض الفصل بين النظام السياسي كمجال عام، والإيمان الديني كمجال خاص، هي نفسها التي تتجاوز هذا المستوى الضروري من العلمنة (السياسي) إلى المستوى الأعلى منها (الوجودي). ففي طريقها إلى مناوأة نظم الحكم القائمة، التي تراها مجرد طواغيت تسعى إلى سرقة الحاكمية الإلهية وتعطيل الشريعة، تستحل تلك الحركات منظومة القيم الأخلاقية، التي تصوغ جوهر الروحانية الدينية وتحث المؤمن على محبة الآخرين والتعاون معهم والبر بهم. ليس فقط عبر الإرهاب الذي يقتل أبرياء ينهى الدين عن إراقة دمائهم، حتى إن الإسلام يعتبر قتل نفس واحدة بمثابة قتل للناس جميعا، بل وأيضا في التشريعات التي تخص حرمة المال والعرض، وفي التساهل في الممارسات الجنسية تحت لافتات واهية، ضمن ما يسمونه جهاد النكاح، الذي هو نوع من الزنى الصريح، كطريقة لجذب الأتباع وتجنيد المنافقين. وهكذا تقود المعركة ضد العلمانية السياسية، كنمط عقلاني لتنظيم المجتمعات وإقامة حكم رشيد، إلى استحضار المستوى الأخطر من العلمنة (الوجودية) الذي يتصادم حقا مع الحضور الديني في العالم، إذ يهدر المرجعية الأخلاقية التي يجسدها الدين، ويلهمها الحس الإنساني المشترك، الذي تتكاتف في صوغه الأديان الصحيحة والفلسفات المثالية والخبرات التاريخية لجل الحضارات الكبرى والمجتمعات المتمدنة.