عشرون سنة في العنوان ما هو إلّا رقم، يمكن أن يوضع مكانه: خمس سنوات، عشر سنوات، ثلاثون سنة... والمقصود أن يسأل الإنسانُ نفسَه عن مستقبله القريب أو البعيد كيف سيكون حاله فيه إن طال عمره إليه؟ كيف سيكون موقفه بعد انقضاء هذه السّنوات (عشرون سنة مثلًا) الّتي ستنقضي بسرعة بلا ريب ولا شكّ؟ كيف سيكون تقييمه لمَا مضى من عمره آنذاك؟ وبالأحرى كيف سيكون تقييمه لهذا الأوان الّذي يطرح فيه هذا السّؤال عن مستقبله ذاك؟ هل سيندم والنّدم نار تحرق الهناء والسّعادة؟ هل سيخجل في ذلك الإبّان ممّا يعمله الآن؟ هل سيجد نفسه أمام ركام من المخزيات أو العثرات أو الأخطاء؟ واسأل ما شئتَ بعد ذلك. إنّ من الهام أن يطرح هذه التّساؤلات على نفسه كلُّ إنسانٍ عاقل، وخاصة الشباب منهم؛ لأنّه بعد عشرين أو ثلاثين سنة سيكون (المراهق أو المراهقة) يودّع شبابه أو تودّع شبابها، ويكون الشّاب أو الشابة في نهاية كهولته أو كهولتها، ويكون الكهل أو الكهلة في خريف الشيخوخة، ويكون الشّيخ أو العجوز يودّع أو تودّع الدّنيا! فهذا السّؤال إذًا هام لكلّ إنسان حريص على حياته، عاقل يهتم لمآله، وإن كان الشبابُ معنيين به أكثر؛ كون مرحلة الشباب هي مرحلة القوّة، ومرحلة الاغترار بالحياة وطول الأمل، فلنأخذ المثال بالشباب حتّى يتضح فحوى المقال. لو أخذنا شاب أو شابة من الشباب الّذي نرى منه صورًا متكرّرة في مجتمعنا هذه الأيّام، شباب منطلق لا يحكمه شرعٌ ولا خلق ولا عرف ولا تقاليد ولا حياء!. شبابٌ يعيش حياة صاخبة فارغة مَلْئَ بالفراغ والتّوافه!. شبابٌ منهمكٌ في اللّهو واللّغو بين ألعاب الكترونية لا تُجهل مضارها وأخطارها، أو أفلام ومسلسلات (وفيديو كليبات) ماجنة لا تخدش الحياء بل تهتك الحرمات، وتروّج لكلّ أنواع الشّذوذ، وتحارب كلّ قيم الفضيلة، وتدعو لكلّ قيم الرذيلة! شبابٌ (ذكورًا وإناثًا) يعبد جسده ومظهره، قد أخذ النصيب الأكبر من اهتمامهم، وبلغ التّشبّه بينهم مبلغًا ما عدنا نفرّق بين المؤنث والمذكر منهم إلاّ بصعوبة بالغة! شبابٌ لا رسالة له في الحياة، فهو لا ينصر دينًا، ولا يقيم دُنيا، ولا يبني دولة، ولا ينفع مجتمعًا، بل لا ينفع نفسه!. شبابٌ يعيش معارك (دونكيشوتية) ومغامرات صبيانية وتجارب غرامية، لا يجنون منها إلاّ انحراف أخلاق، وتشوّه سمعة، وذكريات مؤلمة، ومعاصي موبقة! شبابٌ يضجر من كلّ ما هو جِدّيٌّ نافع، فلا همّة له في الدّراسة، ولا رغبة له في العلم، ولا نشاط له في العمل!.. الخ. فلنقفز عشرين سنة إلى الأمام، ولننظر شاب من الشباب الّذين وصفنا أحوالهم، وقد بدأ الجسم يترهل، ولم يبقَ من وقت الفراغ الكثير، وكثرت المسؤوليات، وقد وجد حياته مختصرة في ذكريات مخجلة أو لهوٍ انقضى والعمر قد مضى ولن يعود ماذا يفعل؟ وماذا سيقول لأبنائه؟ عن ماذا سيحدثّهم؟ وإن انحرف أحدهم أو انحرفوا كلّهم بماذا سيواجههم؟! بطيشه وخِفّته وزعره! بلهوه ولغوه ومعاصيه!.. ولننظر شابة منهم، وقد بدأ الجسم يترهّل، وذهب الجمال، وتفرّق من حولها من الشّباب الذّئاب، الّذين “خَدَعوها بقولهم حَسْناءُ.. والغَواني يَغُرٌهُنَّ الثناء”! وهي تنتظر الزّوج الطّاهر الشّريف، وكيف تخفي عنه ماضيها وتاريخها ومغامراتها؟ هذا إن خرجت منها سالمة في مجتمع لا يرحم المرأة إذا أخطأت أبدًا! وإن بَنَت أسرة ماذا تقول لأبنائها وبناتها؟ كيف ستربّيهم؟ وكيف ستروي لهم مغامراتها وطيشها...؟! نعم إنّ حياة الإنسان ليست وحدات صُلبة مستقلٌّ بعضها عن بعض، بل هي متداخلة متشابكة يؤثّر المتقدّم منها في المتأخّر بل شكّ، وإنّ كثيرًا من الكهول والشيوخ والعجائز الّذين يعانون الآن إنّما ذلك نتيجة لاختيارات اختاروها ومسارات ساروها قبل عقود من الزّمن، هم الآن يجنون ثمارها! كما أنّ كثيرًا من الشّباب والشّابات الآن يستخفون بالحياة، ولا يلتفتون لمواعظها، ولا يستمعون للنّاصحين، بل يستهزئون بهم ولا يحبّونهم، فهم مغرمون بنجوم اللّهو واللّغو والمجون، والإنسان من طبعه أن يستثقل النّصح ولا يحبّ النّاصحين، ويميل إلى من يثير هواه ويلبّي نزواته! وقد قال سيّدنا صالح عليه الصّلاة والسّلام لقومه: {.. يا قوْمِ لقدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالةَ ربِّي ونَصحْتُ لكُمْ ولكنْ لا تُحِبُّونَ النّاصحين}. إنّ التّفكير في المستقبل، وطرح مثل السؤال الّذي جعلته عنوانًا لهذه الكلمة هو بعض مدلول قول الله تبارك وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ}، فغدٌ في الآية وإن كان الأظهر أنّ المقصود به هو يوم القيامة، فهذا لا ينافي أن يشمل كلّ غدٍ ينتظر الإنسان، وإنّما يوم القيامة له خصوصية أنّه يوم الفصل والحساب الحقّ، فالفوز فيه هو الفوز، والخسران فيه هو الخسران! ولكن هذا لا يمنع أن يشمل معنى الآية كلّ مستقبل ينتظر الإنسان، فيجب أن ينظر ما قدّم له؟ وكيف سيكون حاله فيه؟. قال العلّامة عبد الرّحمن بن ناصر السّعدي رحمه الله: “وهذه الآية الكريمة أصلٌ في محاسبة العبد نفسه، وأنّه ينبغي له أن يتفقّدها، فإن رأى زللاً تداركه بالإقلاع عنه، والتّوبة النّصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصّراً في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربّه في تكميله وتتميمه، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإنّ ذلك يوجب له الحياء بلا محالة. والحرمان كلّ الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوماً نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقّه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فُرُطاً، فرجعوا بخسارة الدّارين، وغبنوا غبناً، لا يمكنهم تداركه، ولا يجبر كسره”. وإنّي لأعجب أنّنا نعاني -نحن المسلمين عموماً- من مرض الغرق في الوقت الرّاهن، وعدم التّفكير في المستقبل، والتّخطيط له على مستوى الأفراد وعلى مستوى الدّول كذلك! فكأنّنا نعيش في مهبّ الأيّام، نعيشها يوماً بيوم، وننتظر النّوازل حتّى تقع والقوارع حتّى تدمغ لنبدأ نفكّر ماذا نفعل؟ وماذا يجب أن نعمل؟ ونقول: لو ولو، وننسى أنّ المستقبل بعد عشرين سنة هو ثمرة لأفعال اليوم! فإذا كان تغيّر حال الدّول يحتاج جهداً كبيراً ووقت طويلا، فماذا عن تغيير كلّ واحد منّا نفسه؟! أم نغرس اليوم الشّوك ونتمنّى أن نجني العنب بعد عشرين سنة!!! * إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة6666