على عكس تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي قال فيها قبل أسابيع إن ''الإسلام يعيش أزمة في جميع أرجاء العالم''، يبدو أن فرنسا هي التي باتت اليوم مأزومة بتزايد الأعمال الإرهابية منذ إعادة نشر صحيفة شارلي إيبدو الساخرة رسوما كاريكاتورية مسيئة للرسول. في آخر التطورات عمّت البلاد أجواء التأثر والصدمة بعد أن أقدم مهاجر غير شرعي تونسي على عملية طعن أدت إلى مقتل ثلاثة أشخاص داخل كنيسة في مدينة نيس، صباح أول أمس الخميس، في حادثة دفعت الرئيس الفرنسي إلى رفع حالة الطوارئ المطبّقة في البلاد إلى الدرجة القصوى. وفيما فتحت السلطات تحقيقا في الواقعة، باعتبارها محاولة اغتيال على صلة بمؤسسة إرهابية، كشفت صحف فرنسية، أمس الجمعة، أن اليميني المتطرف الذي هدد المارة بشوارع مدينة أفينيون كان يخطط لمهاجمة المسلمين قبل أن تورده الشرطة قتيلاً صباح الخميس يعاني من "مشكلة نفسية"، وبالتالي لن يتم التحقيق في الحادث باعتباره "هجوماً إرهابياً". وتشعر السلطات الفرنسية بكثير من القلق من إمكانية حدوث عمليات إرهابية جديدة بعد تعرض البلاد لهجومين داميين خلال اقل من شهر، وقال وزير الداخلية الفرنسي أمس الجمعة إنه من المرجح وقوع المزيد من الهجمات على أراضي فرنسا في وقت تخوض فيه "حربا ضد الأيديولوجيا الإسلامية المتشددة". وتأتي هذه المخاوف غداة قطع تونسي رأس امرأة وقتل اثنين آخرين في هجوم بكنيسة في مدينة نيس الفرنسية، قبل إصابته برصاص الشرطة والقبض عليه وسط إدانات دولية، وشغلت الحادثة التي حظيت بتنديد واسع من قبل المسلمين ووسائل الإعلام الفرنسية، وأدان الأزهر بشدة هجوم نيس، وأكد في بيان له أنه لا يوجد بأي حال من الأحوال مبرر لتلك الأعمال الإرهابية البغيضة التي تتنافى مع تعاليم الإسلام السمحة وكافة الأديان السماوية، داعيا إلى ضرورة العمل على التصدي لكافة أعمال العنف والتطرف والكراهية والتعصب. وبعد الحادثة بحوالي نصف ساعة قتلت قوات الأمن الفرنسية بالرصاص رجلا هدد المارة بسكين كبير في مدينة أفينيون الواقعة جنوبي فرنسا، في ثاني هجوم من نوعه بالبلاد خلال ساعات، وذهبت الترجيحات آنذاك إلى أن ما وقع له علاقة بحادثة نيس، إلا أن صحيفة "لوموند" الفرنسية كشفت أن المشتبه به ينتمي إلى اليمين المتطرف، وكان يخطط لمهاجمة المسلمين، مشيرة إلى أنه يعاني من اضطرابات نفسية. وبناء على ذلك، أعلنت الحكومة الفرنسية أنه لن يتم التحقيق بالحادث على أنه "هجوم إرهابي"، بخلاف نظرتها لحادث الطعن بمدينة نيس. وبات تزيد أعمال العنف في فرنسا يطرح مخاوف على السلم الأهلي للبلاد. وما يفاقم الوطأة السلبية لهذه الأعمال المتطرفة، هو أن فرنسا على عتبة فترة جديدة من الحجر الصحي لمواجهة فيروس كورونا، ستمتد لشهر، ما أدى إلى اختلاط الإرباك المعيشي بالإرباك الأمني. وفي كلمة توجه بها إلى الفرنسيين عقب حادثة الطعن في نيس، قال ماكرون إن "بلادنا عرضة للاعتداء" وإن هذا الاعتداء مردّه إلى ميلنا للحرية وعدم رضوخنا للترهيب. وأكد ماكرون حرصه على صيانة حق الفرنسيين في ممارسة أديانهم، موضحاً أن إجراءات أمنية ستتّخذ حول مختلف أماكن العبادة وسترفع حالة الطوارئ إلى درجتها القصوى، وسيصبح عدد عناصر الجيش الذين يساندون الشرطة 7 آلاف عنصر، بدلا من 3 آلاف، خصوصا مع اقتراب عيد جميع القديسين لدى الكاثوليك الأحد. وحضّ ماكرون على ضرورة اعتماد القوة مع منفّذي الأعمال الإرهابية لحماية المواطنين، كما شدد على الوحدة الوطنية، داعياً الفرنسيين إلى رص الصفوف والامتناع عن تقديم أي تنازل، في امتدادا لإستراتيجية ضد ما وصفها بالانعزالية الإسلامية التي تسعى إلى إقامة "نظام مواز" ينكر قواعد النظام الجمهوري ونمط الحياة الليبرالية في المجتمع، حسبه. وكانت فرنسا أطلقت حملة واسعة لمواجهة التطرف في فرنسا وداعميه، حيث بدأت الشرطة الفرنسية الشهر الجاري عمليات ضد عشرات الأفراد المرتبطين بالتيار الإسلامي، فيما تم إغلاق عدد من المساجد والجمعيات الإسلامية التي تحض على نشر الفكر المتطرف، بعضها له علاقة بتنظيم الإخوان، حسب التصريحات الرسمية هناك. ويبدو أن السلطات الفرنسية ستتخذ مزيدا من الإجراءات، خاصة مع تعرض حكومة ماكرون التي تتبنى نهجا وسطيا للضغط من الأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة لاتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه غير الفرنسيين الذين يُنظر إليهم على أنهم يشكلون تهديدا أمنيا. ويرى محللون أن سياق إعلان هذه الإستراتيجية محلي وانتخابي في أفق انتخابات 2022، كونها تأتي استجابة للتحديات التي تواجهها الدولة إزاء اندماج فئات من المهاجرين، وحتى فئات من المواطنين الفرنسيين الذين يغلبون انتماءاتهم الدينية أو الطائفية على حساب المواطنة. وأدت سياسة ماكرون تجاه الإسلام و المسلمين إلى تكوين رأي عام غاضب في العالم الإسلامي، عبر عن امتعاضه من خلال بعض المسيرات الاحتجاجية وحملة لمقاطعة البضائع الفرنسية باتت تشكل قلقا حقيقيا للحكومة الفرنسية وفي خطاب مهادن بعث وزير الخارجية الفرنسي برسالة سلام إلى العالم الإسلامي، يلفت فيها إلى أنّ فرنسا كانت بلد التسامح لا "الازدراء أو النبذ" قائلا، "لا تستمعوا إلى الأصوات التي تسعى إلى تأجيج الريبة. ينبغي ألا نجعل أنفسنا حبيسة تجاوزات أقلية من المتلاعبين"، وذلك في وقت تسرّع السلطات والهيئات الإسلامية في فرنسا العمل حول مشروع لتدريب أئمة على الطريقة الفرنسية، لوقف استقدام أئمة من الخارج وإضفاء استقلالية مالية وفكرية على تدريب المسؤولين الروحيين للجالية.