اعتبر الأستاذ الدكتور السعيد رحماني، أستاذ ومدير النشر للمجلات العلمية بجامعة المسيلة وباحث في القضايا الفكرية المعاصرة وفي فكر أعلام الثقافة والفكر الجزائري الحديث والمعاصر، المفكر الجزائري المرحوم الدكتور أحمد عروة -(1926- 1992)- شخصية متفتحة على الحوار جمعت ما بين الطب والأدب والبحث في الفكر الإسلامي، انطلاقا من القرآن والسنة وتراث العلماء المسلمين. كما عالج القضايا المعاصرة بحوانبها العقائدية والأخلاقية إلى جانب الصحية والاجتماعية منها، كاشفا أنه ورغم صيته الدولي لم يأخذ حقه من البحوث والدراسات، مرجعا ذلك إلى طبيعة الرجل الذي كان يعمل بهدوء وحكمة بعيدا عن التهويل والخطاب الحماسي من جهة، وبسبب الحركات الإسلامية في الجزائر التي ظلت أسيرة المرجعيات المشرقية ولم تتجاوزها من جهة أخرى.
هل يمكن الحديث عن مشروع فكري لأحمد عروة، أم مجرد كتابات متفرقة حول الإسلام؟ يمكن القول ودون تردد إن أحمد عروة عالم متعدد المواهب، واسع الفكر، عميق في طروحاته ومنهجه، لكنه لم يحظ بالاهتمام من قبل الباحثين والدارسين الجزائريين، إلا في العشرية الأخيرة، على الرغم مما قدمه من إنتاج علمي وفكري وأدبي متميز، وهو رجل جمع بين النضال السياسي والعلم والدراسة. ولازم الراحل عروة المناضل الكبير محمد بلوزداد بحي بلكور، وكان مقربا منه، كدلالة على مكانته وعلو شأنه في النضال الوطني، وبعد أحداث ماي 1945، ألقي عليه القبض وبقي لمدة في السجن وقبلها كان مطاردا من "بوليس" الاحتلال، كما يذكر البعض أن والده الحاج محمد الصديق كان يلبس زيا تقليديا يشبه لباس الأمير عبد القادر، ويتجول به بشموخ في أحياء بلوزداد، مما يثير اشمئزاز الأقدام السوداء. كم توجه سنة 1946 إلى فرنسا وتحصل على شهادة البكالوريا، ثم دخل كلية الطب وترأس جمعية الطلبة المسلمين من 52 حتى 53، ولما عاد إلى الجزائر اشتغل بمستشفى البليدة. بعد الاستقلال فتح عيادته بحيه الشعبي في بلكور، وكان يتكفل بالعائلات المعوزة من خلال الكشف المجاني، ثم أصبح بروفيسورا مكونا في الصحة العمومية، كما كان عضوا في عدة جمعيات اجتماعية وثقافية، وعميدا لجامعة العلوم الإسلامية بقسنطينة، إلى وفاته في 27 فيفري 1992، كما يذكره الجزائريون من خلال دروسه الدينية المتلفزة المتسمة بالحوار البناء والحجة الدامغة وربط الدين بالحياة. كان الرجل متفتحا على الحوار، يجمع بين الدين والعلم والإيمان ويقول "الإنسان لا يفهم الكون إلا بالعلم، ولا يدير العالم إلا بالإيمان"، وأهم كتاباته "ما الإسلام؟" و"الإسلام والديمقراطية" و"الإسلام والعلم" و"الإسلام والأخلاق الجنسية"، وقد قدم هذا العالم جليل الأعمال التي تشكل دليلا على تنوع مواهبه واتساع آفاق عطائه العلمي والفكري، علاوة على تميزه في النشاط الدعوي، مما جعل صيته يتجاوز ربوع الجزائر. كما اهتم بالفكر الإسلامي وقضاياه المعاصرة إلى جانب الطب والأدب، وقد ارتكز على جانبين هامين من جوانب الفكر الإسلامي لهما صلة وثيقة بالحياة المعاصرة، مما يعني أنه كان يعي مكانة المشروع الذي يتبناه، ويسعى إلى تحقيق أهدافه في خدمة الدعوة الإسلامية بأسلوب العصر وفي أجواء المعارف العلمية الحديثة، وهما الجانب المعرفي والإيماني والروحي الأخلاقي، مستندا على المعرفة العليمة والخبرة الواقعية، والجانب الثاني هو الجانب الطبي والصحي والوقائي الذي يعد أساس منظومة صحية شاملة تخدم الجميع. ومن أهم مؤلفاته أيضا "الإسلام في مفترق الطرق" بالفرنسية وقام بترجمته إلى العربية المفكر والفيلسوف المصري الدكتور عثمان أمين، كما انشغل بقضية الديمقراطية وعلاقتها بالإسلام، وعالج قضية تحديد النسل في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية، دون أن ينسى أن يتناول بالدراسة علاقة الإسلام بالعلم، وغيرها من القضايا الفكرية التي أولاها عنايته واهتمامه وعالجها في ضوء الإسلام.
على ماذا تستند هذه الكتابات الفكرية، بمعنى ما هي مرجعياتها الأساسية؟ قبل أن نتحدث عن مرجعية فكر عروة، نتحدث أولا عن إنتاجه الفكري ومحاوره الأساسية، ويمكن تقسيم الإنتاج الفكري والعلمي لأحمد عروة إلى محورين أساسيين هما قضايا الفكر الإسلامي وبالخصوص القضايا الإيمانية والروحية والأخلاقية وأسس المعرفتين الدينية والعلمية والعلاقة بينهما في ضوء تعاليم الوحي ونصوص القرآن والسنة، وثانيا قضايا الصحة والطب الوقائي والصحة العامة وحماية البيئة. والناظر في هذه الاهتمامات يجد أنها من صلب القضايا التي اهتمت بها النظرية الإسلامية، ومن أهم متطلبات الحياة الإنسانية في هذا العصر، إذ أصبحت هذه المتطلبات الشغل الشاغل لفكر البشرية بنوعيه الفلسفي والاجتماعي والعلمي. ونستطيع ملاحظة ذلك من خلال مؤلفاته التي يمكن تقسيمها وفق المحورين السالفين، ففي الفكر الإسلامي نجد كتبا وعدة مؤلفات وهي: الإسلام في مفترق الطرق، الإسلام والعلم، العلم والدين مناهج ومفاهيم، الإسلام والديمقراطية، الإسلام والجنس، ما هو الإسلام. الإسلام وتحديد النسل، إلى جانب أفرأيتم النار التي تورون. تحديات علمية وآفاق اجتماعية للتقدم العلمي والتكنولوجي. وهناك أبحاث تتناول قضايا أخرى مهمة لا تقل أهمية عما ورد في الكتب، وهي تكمل ما في المشروع المعرفي لفكر عروة، وهي تلك المقالات والأبحاث التي كتبها وألقاها في مناسبات مختلفة ومنابر علمية متباعدة جغرافيا، على غرار آفاق إسلامية لفلسفة العلوم الإنسانية، الفكر السياسي في العالم الإسلامي.. متاهات وعلامات، الأمة الإسلامية بين الاعتصام والانفصام، النموذج الغربي للأسرة، المسلمون في أوروبا بين الأخذ والعطاء. وبالنسبة للفكر الطبي والصحة العامة والطب الوقائي فهو ثاني المحاور الكبرى لفكر عروة، فقد تضمن عديد المواضيع ذات الأهمية، على غرار فيزيولوجيا التنفس عند ابن سينا، الصحة الاجتماعية في آفاقها الإسلامية، نظرية الوقاية عند ابن سينا وآفاقها الجديدة، آفاق إسلامية لفلسفة وسياسة الصحة، المناهج العلمية لمعرفة خصائص الأدوية عند ابن سينا، إلى جانب آفاق تعليم العلوم الطبية باللغة العربية، الطب الإسلامي وآفاقه. وعليه يمكن القول من خلال ما سبق من أعمال عروة وأبحاثه ومقالاته، إن المرجعية العلمية لفكر عروة ترجع إلى مصدرين هما المصادر الإسلامية وهي القرآن الكريم والحديث النبوي وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتراث العلماء المسلمين وفكرهم العلمي والمعارف العلمية والعقلية الحديثة، إذ أن الدكتور أحمد عروة بحكم تخصصه العلمي واهتمامه بالفكر العلمي الإسلامي الطبي وغيره، يعتمد على العلوم والمعارف الحديثة ويوظفها لخدمة مشروعه العلمي والتربوي والدعوي.
هل يمكن القول إن كتاب "الإسلام والديمقراطية" عبارة عن مؤلف أسيئ فهمه؟ لم يكن كتاب الإسلام والديمقراطية لأحمد عروة هو الوحيد الذي تناول مسألة الديمقراطية والإسلام في الفكر الجزائري، بل تحدث عنها مالك بن نبي من قبله وعبد المجيد مزيان بعد ذلك، كما لم يغب الموضوع عن الفكر الإسلامي الحديث، إذ تم بحث الموضوع في بعض المؤلفات الصادرة بالمشرق العربي مبكرا نسبيا. وكتاب أحمد عروة عن الديمقراطية والإسلام جاء ربما في وقت مناسب، وقد عالج مسألة العلاقة بين الإسلام والديمقراطية من منظور منهجي يعتمد على كثير من المبررات المعرفية والتاريخية والجغرافية والسياسية والواقعية للتلاقي بين الإسلام والديمقراطية، ولا يجد حرجا في القول إن الإسلام يمكن أن يلتقي مع الديمقراطية في كثير من القضايا، والإشكالية في قراءة الكتاب أن العقل الجزائري لا يدرك قيمة ما عنده ومدى التميز الذي تتميز بها الدراسات التي كتبها أحمد عروة رحمه الله تعالى.
هل صعود الحركة الإسلامية في التسعينات واستنادها لمرجعيات أخرى هي التي أدت إلى تهميش فكر أحمد عروة؟ لعل أهم ما تميزت به الحركة الإسلامية في الجزائر هو أمرين، الأول هو السطحية المعرفية والعلمية إذ لم تكن تمتلك المرجعيات العلمية الرصينة المتضلعة في علوم الشريعة والعلوم المساعدة لها، ولذلك لجأت إلى مرجعيات خارجية مشرقية بالخصوص، وهنا وقعت أسيرة فكر هذه المرجعيات وخصوصيتها ولذلك ظلت تردد ما تجود به قرائح هؤلاء ولم يتمكنوا من تجاوزها. وأما الأمر الثاني، فهو فقدان الشخصية الوطنية والتبعية لتلك المرجعيات الخارجية، فقد فرضت عليها هذه المرجعيات أن تكون موالية لها في كثير من المواقف، وأحيانا في كل شيء كما هو عند تيار الإخوان الذي يخضع لمكتب الإرشاد في القاهرة وتيار السلفية الذي يخضع لمشايخ الوهابية في السعودية ويحتكم إليها في كل شؤونه، والنتيجة أن أي مشروع جزائري يتم تهميشه وعزله وهو ما حدث لمشروع الجمعية ومشروع مالك بن نبي، ونفس المصير ناله فكر أحمد عروة، فقد غطت عليه هذه الولاءات وشوشت على مضامينه، إلى فترة زمنية طويلة. وهناك سبب آخر ربما قد أدى إلى عدم انتشار فكره هو الطابع العلمي لأفكاره وطغيان الأسلوب الهادئ واللغة العلمية البعيدة عن الحماس والخطاب الدعوي العاطفي الحماسي.
ما هي أهم الأفكار التي طرحها في كتابه "الإسلام في مفترق الطرق"؟ لا ريب أن هذا الكتاب يعد واحدا من مؤلفات الدكتور أحمد عروة رحمه الله، التي نالت انتشارا واسعا وأحدثت صدى كبيرا، وعنوان الكتاب يشبه ويحاكي كتاب محمد أسد "الإسلام على مفترق الطرق"، وقد تحدث عنه الأستاذ الدكتور مسعود فلوسي من كلامه في وصف الكتاب "لقد صدر الكتاب لأول مرة باللغة الفرنسية عن المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر بالجزائر سنة 1969، وصدرت ترجمته العربية التي أعدها الدكتور عثمان أمين عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع سنة 1975، وتدور فكرة الكتاب حول كيفية النهوض بالعالم الإسلامي لإخراجه من دائرة التخلف والتبعية التي يعيشها". حيث يعتقد مؤلف المفكر أن الحل لا يكمن في الانتماء إلى أحد المذهبين المتنازعين على زعامة العالم وهما المذهب الرأسمالي والمذهب الاشتراكي، وإنما ينحصر في إحياء الإسلام بما يتميز به من تجدد وديناميكية وقوة، وذلك لا يتأتى إلا بإحياء المفاهيم الإسلامية الصحيحة وإعادة عرضها للأجيال الصاعدة بأسلوب جديد، حيث يثير فيها حوافز النهوض والتقدم، وإحياء الإسلام – في نظر المؤلف- لا يمكن أن يتم إلا بصورة شاملة، أي في وحدة تجمع بين جانبيه المختلفين الفلسفي والعملي. ويرى أن الخطوط الأساسية لتحقيق هذا الإحياء، تتمثل في عدة عناصر، أولاها التركيز على الإيمان بالله عز وجل ومعرفته، وهي القضية التي توارد عليها كل من العقل والنقل، فالتجربة الإنسانية على امتداد آلاف السنين، ووعي الإنسان لوجوده واكتشافه الدائم للكون والنظام المحكم الذي تتم فيه حركات الطبيعة وتحولاتها، وكذا الوحي الرباني الذي جاء ليعلم العقل ما لم يتمكن من معرفته عن الله وليخلصه من الاعتقادات الخالصة والمشوهة، كل ذلك يجعل قضية الإيمان بالله عز وجل وما ينشأ عنها من عزة وقوة أساس كل نهضة أو تقدم في العالم الإسلامي. والعنصر الثاني، يتمثل في الواقعية الإسلامية المتجسدة في بعث وحدة المادة والروح، حيث إن الإسلام يرسخ هذه الوحدة في عدة محاور، وحدانية الله ووحدة الخلق، وحدة البدن والروح، وحدة العلم والإيمان، وحدة الدنيوي والأخروي، أما ثالث العناصر هو بعث رسالة الإسلام الأخلاقية التي تربي الإنسان على الالتزام بأداء واجباته تجاه نفسه ونحو المجتمع ونحو الله عز وجل، ليتمثل العنصر الرابع في معالجة المشكلات السياسية للعالم الإسلامي في ضوء المفاهيم والقيم الإسلامية، وهذه المشكلات هي القومية، اللغة العربية، الدولة، حيث يعدد المؤلف المجالات التي ينبغي أن يتم فيها التحول الإيديولوجي للمجتمع الإسلامي، وهي مجال العمل النظري، مجال تثبيت المذهب، مجال التصور والتجمع ونشر الدعوة، مجال تحقيق الوحدة الإسلامية. وأما العنصر الخامس –حسبه- فهو تحقيق التنمية الاقتصادية من خلال المفاهيم الإسلامية بعيدا عن تأثير كل من الرأسمالية والاشتراكية، وسعيا نحو تحقيق العدالة الاجتماعية في النطاق الأخلاقي ونطاق النظم والنطاق العملي. وينتهي المؤلف في آخر الكتاب إلى بيان شروط النهضة الإسلامية، ويحددها في بعث التاريخ أو إعادة استكشافه، تجديد الذات بدلا من الارتماء في أحضان الغرب مع مجاوزة المذاهب القائمة بتعزيز مركز الإسلام على الصعيد الدولي باعتباره حكما وعامل سلام عالمي.
كيف نقرأ أحمد عروة اليوم؟ إن فكر عروة كما يتضح لكل قارئ ودارس موضوعي أنه متنوع وثري ودسم، ويتناول قضايا مرتبطة بالحياة الإنسانية وبالواقع المعيش للمجتمعات البشرية، لأنه يتناول قضايا عقادية وأخلاقية وصحية واجتماعية ومعرفية، ولذلك يحتاج إلى قراءة واعية تعيد له الاعتبار ونستفيد منه في برامجنا التعليمية والصحية والتربوية، فالرجل كان يعمل بهدوء وصمت وحكمة بعيد عن الدعاية والتهويل والخطاب الحماسي الوعظي، كما ساهم الدكتور بجهوده العلمية في إثراء التجربة العلمية والتربوية والصحية والاجتماعية والأخلاقية بطريقة علمية، لذلك يمكن الاستفادة من تراثه الفكري والعلمي ومن منهجيته في البحث والدراسة والتحليل.