وهو يقرأ كلمات الخطاب التاريخي أمام أعضاء مجلس الأمن ال15، كانت عيون الجميع موجهة إلى السفير عمار بن جامع، الثابت دون قلق ثباتا يرمقه الخصم قبل الحليف، والصديق قبل العدو، وما هي إلا لحظات حتى انطلق الاجتماع، وسط توقعات.. توقعات ممزوجة بقلق بقية الأعضاء.. كيف سيكون العالم بعد هذا الاجتماع؟ هو التساؤل الوحيد الكبير والمهم بالنسبة للولايات المتحدة التي وقعت مرة أخرى في أتون الحيرة من دون معرفة المخرج منها. "سندفِن هذا المساء شهداءنا في فلسطين"، وسنعود غدا لندُقَّ أبواب المجلس من أجل الاستمرار في الدفاع عن الحق العربي والإسلامي، بلا هوادة وبلا كلل، فما ضاع حق وراءه طالب.. بالكاد كانت معاني هذه الكلمات تترجم عبر سماعات الأذن التي وضعها الجميع ليقرأ كلماتها العربية الموزونة بميزان الذهب، لدقة الحروف والمعاني التي خرجت منها. كانت المندوبة الأمريكية مهتزة المشاعر، متسائلة لماذا اختيرت لتكون الواقي الذي يهتز ويرتعش من قوة الحروف والكلمات، وسهام النظرات المصوبة إليها تترصّد فرائسها المختفية بثيابها الداكنة اللون. وكما كان متوقعا، نطق سي عمار بالكلمات المزلزلة دون تراجع أو تردد، وبصوت جهوري غير معتاد، هي تلك النبرة النابعة من الريف الجزائري الأصيل، ونظراتُه تحوم حول طاولة الاجتماع تصوّب كل حرف من الخطاب ناحية مندوب تلو مندوب، مستشعرا ما تخفيه الألسن، والأجسام التي لم تعتد على سماع كلمة الحق من بلد الحق والبطولات التي لن تختفي أبدا مهما كانت الضغوط.. وإن حاول المثبّطون في الشرق والغرب تنفّس الصعداء بسرعة مباشرة بُعَيد رفع الجلسة، فإن هناك عملا مضنيا ومرهقا شرعت فيه الإدارة الأمريكية لمحو آثار ما ارتكبته ضد مبادئ استقلالها وحريتها قبل 3 قرون، بعد حرب ضروس مع بريطانيا، فهي مهما تناست التاريخ فسوف تدرك لا محالة أنها تنكّرت لمبادئها، وهو بذلك بداية السقوط المدوّي إن لم يكن قد بدأ حقيقة، ولعل العزلة الدولية بينها وبين حلفائها مؤشر واضح وبليغ على السقوط. وعلى مدى 10 أيام أو أكثر، حاولت واشنطن بكل الوسائل ثني العزيمة التي تسلح بها الوفد الجزائري بنيويورك، الذي رفض التنازل عن حق الأمتين العربية والاسلامية، والحق الجزائري الذي لا يهادن ولا يطأطئ الجبين في الدفاع عن المبادئ التي صارت عملة صعبة ونادرة في هذا الزمان، بعدما وقع الضمير في أوروبا والعديد من البلدان التي ظلت تدوّر الأسطوانة المشروخة بشعارات باطلة ومبطلة، من حرية وعدالة وتضامن أو أخوة بين الشعوب! لقد كان خطاب سي عمار بمثابة الزلزال الذي ستليه هزات ارتدادية متتالية، ولن تتوقف، لأن هزة نيويورك وتداعياتها لن تتوقف دون أن تحقق النتائج المرجوة عالميا، والتي ستقطف فلسطين ثمارها عاجلا أم آجلا. ولن تنجح المقاومات القائمة على الباطل في التصدي لهذا الزلزال، لأن منظومة اللوبي الصهيوني في العالم بدأت تتفتت بعدما انفضح من يقفون وراءهم في الغرب والشرق، عند بعض العجم وعند بعض العرب. كان سي عمار يتحدث باسم ونبرة الجزائريين والجزائريات الذين وقفوا صفا واحدا في وجه التحالف الغربي الصهيوني، وهذا سر القوة والثبات في المواقف، وهو مدعاة للكثير من الانتباه لدى الغير، الذين سيفتحون صفحات التاريخ لاستقراء سر هذه القوة، وسيستغرقون وقتا طويلا في البحث عن السبيل إلى كسرها، وما إن كان ممكنا استنساخ تجارب نجحت في بلدان أخرى لزعزعة الثقة والتلاحم بين أفراد الشعب الجزائري الذين يتضامنون مع أشقائهم الفلسطينيين، تماما مثلما تضامنوا وساندوا شعوب المعمورة قاطبة، التي عاشت الاضطهاد الاستعماري والنهب المبرمج والتشريد والتهجير. ألم يُهجّر الاحتلال الفرنسي أجدادنا من أرضهم إلى كاليدونيا الجديدة؟ ألم تغتصب النساء والفتيات على يد الجنود الفرنسيين؟ ألم تمارس فرنسا الاستعمارية التعذيب الممنهج ضد مناضلي ومجاهدي جبهة التحرير؟ ألم تعدم مساندي الثورة من الفرنسيين ومن غيرهم؟ ألم تمارس سياسة التجويع؟ ألم تحشد الجزائريين في محتشدات مثل محتشدات النازيين؟ فكيف كانت النتيجة؟ إن التاريخ يتكرر لأن من سنن الكون أن يسترجع صاحب الحق حقوقه مهما طال الزمن، وأن الحرية لا تنال بالمؤتمرات والمفاوضات التي تباع وتشترى فيها الذمم باسم سلام الشجعان! خلاصة الكلام، لقد أبلى سي عمار بن جامع البلاء الحسن، وكان خير رسول للجزائر والجزائريين للعالمين في الغرب والشرق، من أجل فلسطين وغير فلسطين، حيث نطق بما كان يجب أن يقال أمام المتغطرسين والتابعين والمتخاذلين، وحتما يكون ما قاله قد حرّك النخوة في نفوس بعضٍ من بني جلدتنا الذين استسلموا للمساومات وللأطماع الفانية.