المتنبي الشاعر الفذّ كان ينظر للأشياء من حوله نظرة الناقد المتبصر، والمعارض الذي يصبو أن تكون أمته في صدارة الأمم كما قال صِنْوُهُ ونده الأمير الحمداني "لنا الصدر دون العالمين أو القبر"· المتنبي الذي ترك الأحبة والرجال الصناديد في الشام وارتحل الى مصر، معتقدا أنه سينال ما عجز على نيله في الشام، لكنه حينما دخل أرض الكنانة مصر وجدها على الصورة التي وصفها بها عمرو بن العاص رضي اللّه عنه "أرضها ذهب، ونساؤها لعب، ورجالها لمن غلب"، إنها الفراسة التي يتميز بها المؤمن والعربي أيضا، وبنفس الصورة وصفها الشاعر العربي الشامي نزار قباني وهو يصور رحلة أنور السادات الى القدس حينما قال: "هل أتتك الأخبار يامتنبي··· أن كافور قد فكك الأهراما··· يصيح في مصر كالديك·· وفي القدس يمسح الأقداما"· المتنبي الذي جاء ليمدح كافور الإخشيدي حاكم مصر بعد إغراء هذا الأخير له ولكنه المتنبي كان في مدحه هاجيا "لا تشتري العبد إلا والعصا معه * إن الأنجاس لمناكيد" وقوله: "إن أنت أكرمت الكريم ملكته* وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا"· أنيس منصور هذا الرجل الذي زار الجزائر وأكرمته الجزائر كما يكرم الأضياف لم يذكر هذا الكرم بخير، ولم تبق معلقة في ذاكرته إلا صورة الأكل فقط، وكأنما كان يريد من الجزائريين أن يستقبلوه بالفول المدمّس، بدل دقلة نور والحليب التي هي عادة من عاداتهم لاستقبال الضيوف، ويتكلم عن الكسكسي والجبنة وكأنما جاء أنيس منصور كما جاء الذين هبطوا من السماء حسب عنوان كتابه المسروق، أو أشباح وأرواح، ليجد ملوخية وطحين وجبنة، وناسيا أن زيارته للجزائر لم تكن زيارة سياحية، وإن كانت فإن في سهول متيجة مالا عين مصرية رأت ولا أذن سمعت ولا خطرت على بال أنيس منصور·