إني نظرت في وضع الأديب العربي، فرجعت إلى قواعدي غير سالم ولا غانم. وجدت الفقر مطبقا عليه في كل مكان من هذه الأرض العربية إلا من رحم ربك! وأغرب ما رابني في أمره هو أنه يمتلك سيدة اللغات، كما قال الشاعر العراقي معروف الرصافي ذات يوم، وأعني بها اللغة العربية. هذا الأديب يقطع الفيافي، ويظل على عطشه الشديد مع أنه يحمل الماء القراح على ظهره؛ أي هذه اللغة العربية، وكيف يعطش إنسان يحمل في أطواء نفسه هذه اللغة بالذات؟ واسترجعت قائمة بعض الأدباء العرب الذين قضوا فقرا وهوانا، فهالني طول القائمة على الرغم من أنني أردتها قصيرة لتفي ببعض الحاجة. محمد زفزاف، الروائي والقصصي المغربي، كاد يموت جوعا بين أطفال جيرانه الذين ظلوا يتشبثون به ويصاحبونه في كل لحظة. كل ذلك، والناشرون يبتزونه ابتزازا مع أن مبيعات كتبه جيدة تكفيه للعيش الهنيئ. بدر شاكر السياب، ذلك الذي أعده أكبر شاعر في زمننا هذا، يموت فقرا وجوعا أيضا ذات يوم من عام 1964. يقف على حدود العراق الجنوبية، ولا يقوى على الدخول إلى داره؛ لأن حكام بلده يطاردونه بسبب قصيدة يقولها. محمد بوشحيط، الناقد الجزائري، على حد ما عرفته من بعض الأصدقاء، يقضي نحبه وهو لا يكاد يجد بعض المال لابتياع الدواء. قطعت الشركة الوطنية والتوزيع مرتبه؛ لأنه تغيّب مرة أو مرتين. ويجيئ بعد ذلك من يؤنبه، ويقول عنه: كنت كذا وكذا وكذا.. وهناك، بطبيعة الحال، العشرات، بل المئات من الأدباء العرب الذين عانوا شظف العيش طيلة حياتهم المريرة، وعادوا إلى ربهم، ثم نظمت لهم المهرجانات والندوات، وطبعت رواياتهم ودوواينهم الشعرية، وترجم البعض منها إلى اللغات العالمية، لكنهم، على حد ما يقوله المثل الشعبي الجزائري في هذا الشأن: بلغ فلان قعر الوادي لكنه لم يرشف رشفة واحدة من مائه! أوليس ذلك بالعجيب؟! يحمل الإنسان أجمل لغة في هذه الدنيا، ولا يستطيع أن ينال قوّته بها ومن خلالها؟! سألني أحد الصحفيين الشباب: كيف لا يفكر هذا الأديب العربي في الوقوف على الحياد، والكتابة بلغة أخرى غير اللغة العربية حتى يتفادى الموت البطيئ جوعا ومذلة وهوانا؟ وهو يعني بذلك الهجرة إلى اللغة الأخرى، أو "الضرة" التي قد تنافس الزوجة الأولى. وعاد نفس الصحفي ليسألني: بربك، ألا تفكر في الكتابة بالفرنسية أو بالإنجليزية؟ أجبته أن لا حتى وإن أنا أوشكت على أن أقضي نحبي في هذه البيداء العربية التي لا تنظر بعين التقدير والاحترام، لا إلى لغتها، ولا إلى أولئك الذين يظلون على هيامهم القاتل بها! وكان أن سألته بدوري: أو تعتقد، يا هذا، أن الهروب إلى اللغة الأخرى قد يضمن أسباب العيش الرغيد لهذا الأديب العربي المنكوب؟ الشرطي يراقب حركاتك. المخبر يترصدك. العسكري ينتظرك في عطفة الزقاق برشاشه الفتّاك. السياسي ينظر إليك نظرة دونية. المجتمع كله يعتبرك مطرب أعراس. عائلتك تشك في أمرك وفي مستقبل أولادك، فلم، يا هذا، تصر على أن تحمل هذه اللغة الرائقة، هذه السيدة الجليلة، لتموت بعدها جوعا في أزقة المدن التي تنكرك وتتنكر لك، أو لكي تموت عطشا في هذه الفيافي العربية؟ والعجب العجاب هو أن من يفر من وطنه في وقت الشدة، ويدعي التقدمية ومحاربة الظلامية، يعود إليه ذات يوم وينتظر أن يضع الناس فوق رأسه أكاليل الغار؛ "فكيف لا يصهل عرق حين يذبح؟!"، كما يتساءل الشاعر العراقي مظفر النواب. سيدة اللغات جميلة جدا، نغازلها في كل لحظة من وجودنا هذا، نحب أن تبقى في عليائها، لكن الوضع السياسي العربي، مشرقا ومغربا، لا يسمح بمثل هذه المغازلة البريئة، والسبب هو أنها تقود إلى الثورة على كل ما هو منحط دنيئ في حياتنا. أغلب الظن أن أدباء عربا آخرين سيلاقون نفس العنت والهوان والإذلال، لا من جانب هذه اللغة، بل من جانب أولئك الذين ينافقونها في الصباح وفي المساء، ويفرون إلى عواصم الدنيا بحجة الدفاع عن أوطانهم، مع أن هذا الدفاع بالذات ينبغي أن يتحقق في عقر ديارنا.وأقبح ما في الأمر كله هو أن الذين يتلقون كتابات الأديب العربي قلما يفهمون ما تنطوي عليه، ونادرا ما ينظرون نظرة التقدير إلى ذلك الذي يحمل هذه اللغة، ويموت جوعا وعطشا في قلب المدن المنافقة أو في أرجاء الصحاري المحرقة. وبعد، لِم لا يكون الأدباء العرب الذين يعانقون هذه السيدة الجميلة في كل آن، هم أنبياء هذه الأرض العربية التي تفتك بهم في كل لحظة؟ سألني صديقي الصحفي مرة ثانية: ولم هذه المرارة كلها؟ فأجبته بأن الأديب العربي سيظل على عشقه الدائم، ولن "يجوز إلى الأرحل الأخرى"، على حد تعبير الشاعر الجاهلي. هذه السيدة الجليلة، سيدة اللغات، تظل وجدانه الأول والأخير، ذلك الذي لا يمكن أن يتغير أبد الدهر، ولذلك، ليس من العجيب أن يموت بدون هذه اللغة الجميلة حتى وإن تنكّر له الجميع من أهل، ومن دولة، ومن أصدقاء، ومن، ومن، ومن إلى آخر القائمة.