مياه عذبة، انسكبت من أعالي جبال يما قورايا، خطّت لنفسها الطريق ونزلت إلى أسفل وادي موزاية، لتعزف لحنا علا سماء سيرتا عاصمة الثقافة العربية، وتنشد السلام بعبق المحبة من ضريح المرأة الصالحة، حارسة قلعة الحماديين، إلى قلعة بني راشد لؤلؤة ودرر مكنونة لسيدي يحيى المغيلي المازوني، هو نشيد المقاومة والبسالة، يعزف من أعالي جبال جرجرة والبيبان وتحتضنه وديان الصومام، إيفري وأكفادو الشاهدتان على تاريخ أبطال الثورة الأشاوس الشجعان، هو لحن من الناصرية انطلق من زرقة السماء والبحر، ليسمع من أرض الولي الصالح سيدي محمد بن عودة ويصل مداها إلى مغارة مسراتة، تدغدغ بقايا الآثار الرومانية وتلوح بفرح لأراض كانت شاهدة على مملكة النوميدية، كانت شاهدة لحكم ماسينيسا وصيفاقس وتودع أسود مينا، لتنزل ضيفة على مدينة يرقد فيها أحد أعظم ملوك البربر، قيرطا وسيرتا، عش النسر، هي قسنطينة عاصمة الثقافة العربية. في هذا السياق، احتضنت قاعة العروض "أحمد باي"، فعاليات الأسبوع الثقافي لولايتي بجايةوغليزان، في إطار الأسابيع الثقافية المحلية ضمن فعاليات تظاهرة "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية"، من خلال معرض التراث المادي وغير المادي، يشمل العديد من الصناعات التقليدية، على غرار صناعة الزربية واللباس التقليدي (الرجالي والنسائي)؛ من حياكة القشابية، البرنوس والحايك، صناعة الأواني الفخارية، فن الطبخ، الفن التشكيلي والمخطوط، الفنون الشعبية، وبعض الأطباق المحلية كالبركوكس والكسكسي. حفل فني زاوج بين التقاليد والعصرنة، سبق انطلاق الحفل الفني الساهر المعلن عن انطلاق هذا الموعد، مع تقديم استعراضات فلكلورية من طرف فرقة "الهنى" من ولاية غليزان التي قدّمت معزوفات عيساوية، وانطلقت السهرة الفنية بحضور عدد معتبر من طالبات وطلبة الإقامات الجامعية بعلي منجلي، بالطرب البدوي مع فرقة "الشيخ ولد الهواري"، تلتها مقتطفات إنشادية ومدائح دينية أدتها فرقة "الأنوار" الثقافية من غليزان، المكوّنة من 3 منشدين شباب والتي قدمت نشيدين، الأوّل وطني يتغنى بالجزائر وكان بعنوان "الجزائر تاريخ مأصل"، والثاني يتغنى بمكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعنوان "اللهم صلي على المصطفى"، قبل أن تترك الخشبة جوّ الفكاهة والضحك مع الفنان لزرق القوسطو، الذي قدّم عملا فرديا في نوع "الوان مان شو"، أو المنولوغ الساخر بعنوان "كيما راحت كيما جات"، تناول من خلاله موضوع الشباب مع الزواج، حيث تطرّق إلى قضية الزواج عبر "الفايسبوك" وكذا الزواج التقليدي وغلاء المهور، وأمتع لزرق القوسطو الحضور بخفة دمه وأسلوبه الهزلي الذي نال إعجاب الجمهور، ليختم عرضه بجملة صفق عليها كثيرا الحضور وهي "عرسنا هو عرس الجزائر". أما الفقرة الثالثة في الحفل الفني الساهر، فكانت شبابية عصرية بامتياز، من خلال أداء الفنان الغليزاني وليد ديزاد دانس، الذي قدّم في طابع الموسيقى الإلكترونية ثلاث أغاني، استهلها بأغنية بعنوان "الجزائري في العالم هو الأحسن" (ألجيريان في الموند هو الفور)، ثم أغنية أهداها إلى كلّ امرأة جزائرية بعنوان "هي الأحسن" (آلي لا ميور)، أما الأغنية الثالثة فكانت مهداة إلى الأطفال الجزائريين، وتناولت قضية الساعة وهي اختطاف البراءة وعنونها ب"ولادنا أمانة في رقابنا" وقال في مستهلها "أولادنا أمانة في رقابنا، نخافوا عليهم كي يمرضوا، كي يتعذبوا ونخافوا عليهم كي يخرجوا وكي يتخطفوا، نطلبوا ربي يحفظهم من كل شر ومن كل بلية..."، وكان آخر طبق قدّمته ولاية غليزان في الشطر الأوّل من السهرة، من تقديم فرقة "نور البلاد" بقيادة الشيخ برين، التي عادت بالجمهور إلى الطابا الوهراني القديم من خلال تقديم أغنيتين؛ الأولى أداها المطرب قادير بعنوان "حاذر لسانك" والثانية أداها الشاب مروان بعنوان "الغربة الغدارة". أما وفد ولاية بجاية، فقد استهل فقرته الفنية، بمقتطفات شعرية أدتها الشاعرة الواعدة وهيبة رادري التي زفت تحية أخوة، محبة وسلاما، تقديرا واحتراما، أرسلتها على جناح الحمام إلى كل محبي السلام، وقدمت قصيدة باللغة الأمازيغية بعنوان "يالعصفور"، حيث سردت تاريخ المنطقة على لسان الطير وأبحرت في أعماق التاريخ لتغير الأزمان وتحاكي المكان بم فعله الشجعان، ثم ألقت قصيدة ثانية باللغة العربية بعنوان "نبتة العشق"، قالت في مستهلها: "كلمني البحر ونمت نبتة العشق، فأزهرت حبا وكان العطر أعبق، غردت النوارس ترحيبا، فكان الشعور أعمق، بجاية يا مكسب علمي وملعب طفولتي، يا فاتحة الأحضان، ناديت ضميني، فهي مأمن خطواتي وشمعة دربي، على ضفاف الصومام، تحكيك عن مؤتمر الشجعان، فلغة الأمازيغ، جذور الأصالة والعرفان، من أعماق البحار قصة حب يتدفق، حسن الضيافة سمة والعودة إليها اشتياق، سر الناضر إليك، بجاية يا وردة العاشق". الأغاني القبائلية صنعت أجواء حماسية داخل القاعة صنعت الأغاني القبائلية في الشطر الثاني من الحفل الفني، أجواء حماسية داخل القاعة، حيث تفاعل الجمهور مع الأغاني التي قدمتها المطربة وسام التي أرقصت القاعة على إيقاعاتها، كما قدّم أزيفاس هو الآخر مجموعة من الأغاني الراقصة ومنها الرياضية التي أهداها لفريق كرة القدم الجزائري أقل من 23 سنة المتواجد بالسنغال في البطولة الإفريقية لمنتخبات المحليين، بعنوان " ألجيري في البرازيل". من جهتها، أمتعت المجموعة الصوتية لجمعية "نغمة" الحضور بمقتطفات موسيقية أدتها براعم متألقة اعتمدت على صوت المجموعة أحيانا وعلى الصوت الفردي أحيانا أخرى، وكانت الآلة الموسيقية الوحيدة المتواجدة على الركح هي القيثارة التي رافقت براعم جمعية "نغمة" التي توعد بمستقبل زاهر وأدّت العديد من الأغاني بالعربية، الأمازيغية والفرنسية، وغلب على أدائها استعمال اللغة الفرنسية، وهو الأمر الذي أثار استغراب الحضور بما أنّ التظاهرة للثقافة العربية، وقدّم المطرب ياسين زواوي مجموعة من الأغاني الشعبية استهلها بأغنية مشهورة في المالوف القسنطيني بعنوان "تحيا بكم في كل أرض تنزلون بها"، ليكون ختام السهرة في جو التكريمات للوفود الزائرة والقائمين على هذه التظاهرة؛ مسرحيات ومحاضرات في البرنامج حضّرت كلّ ولاية من أجل المشاركة في فعاليات الأسبوع الثقافي المحلي للولايات الجزائرية ضمن تظاهرة "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية"، برنامجا متنوّعا، شمل الطرب والأغاني، الشعر مع إلقاءات شعرية مع الشاعر بسايح ميلود وإيصافي رابح، الفنون التشكيلية ومعارض المخطوطات، ولم يخل البرنامج المسطّر من العروض المسرحية، حيث جاءت ولاية غليزان بعرض مسرحي مع جمعية "القوالة" بعنوان "الرقصة الأخيرة"، وعرض مسرحي آخر مع جمعية "جيل الظهرة" بعنوان "اليد"، أمّا ولاية بجاية فتقدمت بعرض مسرحي للمسرح الجهوي بجاية بعنوان "قارب الغابة"، كما شمل البرنامج بعض المحاضرات، على غرار محاضرة الباحث محند الصادق علي من بجاية، الذي قدّم محاضرة بعنوان "الحركة الإصلاحية في بجاية وحوض الصومام"، كما قدّم محاضرة أخرى رفقة جمال مشهد بعنوان "تاريخ المخطوطات". وعرف البرنامج الفني الثقافي لولايتي بجايةوغليزان العديد من السهرات الفنية التي قدّمتها جمعية "أجيال عيساوة"، فرقة "الإكرام" العصرية و"أبناء مينا" مع الطابع العصري، فرقة "الوصال" مع المدائح والأناشيد الدينية، فرقة الشيخ أحمد عابد وفرقة الشيخ بلعربة مع الطابع البدوي، فرقة "الأشواق" العصرية، فرقة أولاد سيدي بلال الثقافية وفرقة أولاد سيدي عابد مع الطابع القناوي، فرقة الراب لعبة، كما شارك في التظاهرة كوكبة من الفنانين، على غرار الهادي البلبل وحفيظ جوامة. وشمل حفل سهرة اختتام نهار أمس، أداء لفرقة "الأمل" العصرية من غليزان، تقليد الأصوات مع الفنان عيشوش جيلالي، مدائح وأناشيد دينية مع فرقة "البصائر"، الطابع الشعبي مع الفنان مصطفى بلحسن، الطابع البدوي مع فرقة الشيخ بلجة منور، الطابع الشعبي مع الفنان حسينو فاضلي، الطابع الشعبي الحوزي مع الفنان محمد رايس، وقراءات شعرية ومنوعات قبائلية مع جوق الفنان أزيفان. الثقافة راسخة في الذاكرة، القلب والمشاعر في هذا الصدد، اعتبر مدير الثقافة لولاية قسنطينة، أنّ الثقافة تبقى دوما راسخة في الذاكرة، القلب والوجدان، وقال "استمتعنا بفسيفساء من الأغاني التي تعبّر عن ثقافة الجزائر العميقة، وأكّدت "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية" حضروها من خلال هذا التزاوج الثقافي بين ولايتين جاءتا مثنى مثنى، على غرار ولايات أخرى، لتعبق هذه الثقافة بمدينة قسنطينة التي تعيش زخما ثقافيا يعدّ ترسيخا للثقافة عند هذه الناشئة، سنكون دائما وأبدا في الحضور بكم ومعكم"، وأضاف "الأكيد أنّ الذي سيبقى في هذا البرنامج الجميل المقدّم من بجاية وتاريخها العميق إلى غليزان التي أعرفها ومررت بها ذات سنوات وما تزال الذاكرة حاضرة، هو الثقافة التي ستظل قائمة في الذاكرة والقلب والمشاعر والأحاسيس التي نعيشها". ضرورة الحفاظ على التراث الثقافي من جهته، أكّد خلاف ريغي، مدير الثقافة في ولاية بجاية ومحافظ المهرجان الثقافي المحلي للفنون والثقافة المحلية، على ضرورة بذل مجهودات كبيرة والعمل بكلّ قوة للحفاظ على هذا الإرث غير المادي ونقله إلى الأجيال القادمة دون تقصير، وقال في دردشة مع جريدة "المساء" بأنّ وفد ولايته قدّم بعض العينات وأجمل صور لولاية بجاية العريقة في التاريخ والضاربة في أعماق الزمن انطلاقا من فترات ما قبل التاريخ، وهي الولاية التي كانت عاصمة الحماديين وعرفت العديد من الحضارات وتعاقب عليها العديد من الملوك والطوائف من الموحدين، إلى الحفصيين والاستعمار الإسباني، إلى الحماية العثمانية، ثم الاستعمار الفرنسي، وقال "هذا يجعل من الثقافة ذلك الميدان الذي يحافظ على الهوية الجزائرية والشخصية من خلال هذه النشاطات". "على الدولة أن تولي مزيدا من الاهتمام للفنان والمبدع" أما مسحوب الحاج، مدير الثقافة لولاية غليزان، فطالب من الدولة بأن تولي أشدّ الاهتمام بالفنانين والمبدعين عبر مختلف أنحاء الوطن، الذين يعتبرون حسب وصفه، موارد بشرية هامة، كموروث بشري ثقافي، مضيفا في دردشة مع "المساء" أنّه لولا الإنسان لما كان الموروث الثقافي، وحتى تكون استمرارية وحب وإخلاص لهذه الحرف والفنون، يجب أن يكون هناك مزيد من الدعم لهذه الفئة... وقال "حاولنا التعريف باللباس التقليدي لمنطقة غليزان، خاصة البلوزة التي تعبّر عن أصالة المرأة الغليزانية وكذا الجلابة والبرنوس المشهورين في المنطقة، كما حملنا معنا زربية القلعة المشهورة على الصعيد الوطني وحتى العالمي، ولا يزال أهل المنطقة يحافظون عليها، وحملنا أيضا معنا مخطوطات لكوكبة من الأعلام الذين تخرجوا من مازونة والقلعة، أمثال الشيخ الرماشي وأبي رأس الناصري والشيخ السنونسي وغيرهم من العلماء الذين تركوا إرثا علميا تنتفع به الأجيال التي جاءت بعدهم وإلى غاية اليوم".