هل جنى البحث التاريخي والتغوّر في جنبات هذه الجزائر على الأستاذ الجليل والمناضل الكبير مصطفى الأشرف؟، إني طرحت هذا السؤال على نفسي بعد آخر لقاء معه في عام 2000، كنا في حفل ديبلوماسي ساهر ضم عددا من السفراء العرب في فندق الشيراتون، انزلق هو بقامته القصيرة بين الضيوف وانتبذ مكانا قصيا منهم، ثم جاء الرئيس الراحل، رابح بيطاط، فوقعت عيناه عليه، وما أسرع ما اقترب منه وناداه بطريقة لم أعرف ألطف منها في حياتي إلى حد الآن: مصطفى .. مصطفى! وعجبت من ذينك المناضلين العظيمين في تاريخ الجزائر، ومن الود الذي يجمع فيما بينهما، عزوت ذلك إلى حياة المعاناة التي عاشاها، والنضال الذي خاضاه معا، والسجون الفرنسية التي عرفاها منذ عام 1956، أي، منذ أن اختطف الاستعمار الفرنسي الطائرة التي تقلهما مع عدد من المناضلين الجزائريين الآخرين. وكانت تلك أول عملية قرصنة جوية في تاريخ الطيران. ثم إنني انفردت بالأستاذ مصطفى الأشرف بعيدا عن الممارسات والأعراف التي يتبعها الديبلوماسيون، احتفى بي أيما احتفاء، ذلك أنه كان يحب طريقتي في الترجمة عن اللغة الفرنسية. قلت له: "يا أستاذ، لقد فرغت من مطالعة سيرتك الذاتية التي تعالج فيها جانبا من طفولتك". سألني: "هل أعجبتك؟"، أجبته أن نعم. والحقيقة أن الأمر الذي راقني في تلك السيرة الذاتية إنما هو طريقة الأشرف في السرد، روى جانبا من طفولته في نواحي مدينة سيدي عيسى، وولعه بالمطالعة، وبترصد كل ما له علاقة بتاريخ الجزائر، قلت له: "كنت أتمنى، يا أستاذ، أن تكتب لنا رواية أو روايات تسرد لنا فيها تاريخك وتاريخنا جميعا!"، أجابني: "إن الحياة السياسية أخذتني إلى ناحية أخرى، أبعدتني عن الاهتمام بفن السرد الروائي وبالشعر!"، قلت له: "أتمنى أن يبادر سينمائي جزائري إلى تصوير مشاهد من حياة الصبا التي عشتها خلال العشرينات ومطالع الثلاثينات من القرن الفائت!" غير أنه لم يعلق على كلامي. ولكن، هل كان في وسع الأستاذ الأشرف أن يبلغ الذروة التي تربع عليها في مجال البحث التاريخي المتعلق بالجزائر وبنضالها لو أنه ألقى بنفسه في بحر السرد القصصي والروائي؟، قليلون هم المؤرخون والفلاسفة الذين جمعوا بين الحسنيين، أي، بين الموضوع الذي يشغل بالهم وحياتهم، وبين الشعر أو السرد القصصي، جان بول سارتر كان فيلسوفا وقصصيا وروائيا وصاحب مواقف سياسية وكاتبا مسرحيا من الطراز الأول، طه حسين كان ناقدا ومؤرخا وكاتبا روائيا وصحفيا وأستاذا جامعيا قديرا وصاحب ثورة لا نظير لها في تاريخ الفكر العربي الحديث، عباس محمود العقاد كان بدوره أديبا لامعا وباحثا في شؤون السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي وشاعرا وصحفيا، أما الأشرف، فإن حياة النضال السياسي ابتلعته، وحالت بينه وبين أن يكون روائيا مع أنه كان يمتلك حسا روائيا رفيعا، وما أكثر أولئك الذين حرمنا من إبداعهم القصصي والروائي في تاريخنا الحديث نتيجة لانغماسهم في الشأن السياسي، إن طوعا وإن كرها!. لست أدري ما إذا كانت لمصطفى الأشرف محاولات في الكتابة السردية الفنية، ولكن، ما من شك في أنه كان ذا حس روائي رهيف، سيرته الذاتية التي وضعها في أخريات أيام حياته تكشف عن هذا البعد في جهاده الفكري وفي استماتته من أجل أن يعرف الإنسان الجزائري تفاصيل دقيقة عن تاريخ وطنه، خاصة، في الفترة الممتدة من مطالع القرن التاسع عشر إلى غاية الأربعينيات من القرن العشرين، وإذا كان كتابه الشهير "الجزائر أمة وشعبا" بمثابة منارة يهتدي الإنسان الجزائري على ضوئها، فإنّ سيرته الذاتية لا تقل أهمية عن هذا الكتاب بالذات. وأنا أرى أننا خسرنا مصطفى الأشرف روائيا، وكسبناه مؤرخا ومناضلا، ولقد قلت له هذا الرأي صراحة، وأعجبه، ولكم كنت أتمنى أن يكرس ساعات أخرى من حياته المتبقية لكي يقدم لنا سردا قصصيا عن مراحل أخرى من حياته ومن حياة الشعب الجزائري.