استقطبت زيارة الوزير المنتدب للخارجية المغربي، السيد ناصر بوريطة، إلى الجزائر نهاية الأسبوع الماضي، حاملا رسالة إلى الرئيس بوتفليقة من نظيره المغربي، اهتماما متزايدا ليس فقط لدى الإعلاميين ولكن داخل دوائر دبلوماسية وسياسية عديدة. تساؤلات كثيرة طرحتها الزيارة التي اتسمت ب« الفجائية"، حيث لم تكن مبرمجة أو على الأقل لم يعلن عنها مسبقا. تماما كما أنها أطبقت على مناسبتها ومحتوياتها وفحواها - ولعل ما أعطاها قوة الاهتمام وجاذبية التحاليل هو حضور الجنرال طرطاق (مستشار رئيس الجمهورية المكلف بالتنسيق بين الأجهزة الأمنية) عن الجانب الجزائري ومدير المخابرات المغربي، السيد ياسين المنصوري، اللذان حضرا جلسات لقاء الوزير المنتدب مع الوزير الأول الجزائري السيد سلال. زيارة كسرت جمود العلاقات الثنائية و«برودة" استمرت سنوات طويلة في علاقات تميزت يتجاذبات عن بعد وهمز ولمز في السر والعلن جعل البلدان الشقيقان اللذان يجمعهما التاريخ وروابط الدين واللغة والجغرافيا والدم يفوتان فرصا عديدة ليس لها بد، في عالم وجوار إقليمي ودولي متكالب ومضطرب يستدعي يقظة لمواجهة التحديات والعواصف الأمنية الراهنة المهددة لاستقرار المنطقة برمتها وليس البلدان الجاران فحسب. هذا وضع يستدعي جدية وحزما أكبر لتجاوز "التشنجات" الظرفية التي لها أطرها وقنواتها لإيجاد الحلول بفصل العلاقات الثنائية عن القضايا ذات الطابع الأممي والدولي. وهو مطلب وموقف ثابت ظلت الجزائر تدعو إليه، بل تلتزم به في طرح كل القضايا على الطاولة ومن ثمة طي كل الخلافات وفتح الحدود الذي يصبح إجراء وأمرا عاديا فوائده على الشقيقة المغرب كبير جدا. بقي أن نشير إلى أن هذه "الزيارة الأمنية" والرسالة التي حملها مبعوث جلالة الملك محمد السادس قد تكون منطلقا لإعادة الدفء قريبا، وأن هناك اتصالات تمت بين البلدين بعيدا عن الأضواء ومن ثمة فإن الزيارة ستتبع بخطوات ناضجة لاحقا أو في القريب المرئي لبداية عهد جديد بين الجارين أكثر واقعية وبراغماتية وبدبلوماسية هادئة تؤدي ليس فقط إلى فتح الحدود ولكن قبل ذلك فتح كل الملفات وتسوية كل الأزمات والخلافات المفتعل منها والحقيقي. بقي أن أشير إلى أن التقارب المغربي - الجزائري هذه المرة اختار "نافذة أمنية" وعلى مستوى عال. ومعلوم أن كثيرا من التوتر بين البلدين حركته حدود مفتوحة للتهريب والإرهاب والتهجير واللاجئين والمخدرات... وحدود مغلوقة في وجه الأشقاء لأسباب يدرك الجميع أسبابها ومسبباتها ودواعيها. لذلك، فإن العودة من "باب الأمن" قد تكون الطريق الأسلم والأصح لتفكيك كل الألغام بين جارين يشكل تقاربهما قوة إقليمية فعليه ورهانا دوليا كبيرا. محمد السادس يبعث رسالة إلى الرئيس بوتفليقة,,, هل تعيد رسالة الملك الدفء إلى علاقات .. باردة؟ شكلت الزيارة التي قام بها ناصر بوريطة، الوزير المنتدب للخارجية المغربي إلى الجزائر والرسالة التي حملها من العاهل المغربي محمد السادس إلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الحدث هذا الأسبوع وفتحت عدة مساحات للتساؤل عن فحواها وماذا حملت من مستجدات في علاقات ميزتها "برودة قطبية" منذ أكثر من عقدين. هي تساؤلات تبقى مشروعة إذا علمنا أنها أول زيارة لمسؤول مغربي من هذا المستوى إلى الجزائر منذ عدة سنوات ضمن مهمة محددة وفي ظل علاقات ثنائية غلب عليها التوتر وحدود مغلقة وتأشيرة مفروضة منذ صيف 1994. أهمية الزيارة تكمن أيضا في حضور مدير جهاز المخابرات المغربية، ياسين المنصوري، مدير الاستخبارات ومكافحة التجسس المغربي إلى الجزائر، وهو ما يؤكد الأهمية التي أعطاها الملك محمد السادس لهذه الزيارة والنتائج التي يريد تحقيقها. إذا أخذنا بالجفاء الدبلوماسي الذي ميز علاقات البلدين الجارين منذ الاتهامات المغربية الباطلة باتجاه الجزائر بالوقوف وراء تفجيرات فندق أطلس آسني مراكش شهر أوت 1994، فإن قرار الرباط إيفاد وفد وزاري إلى الجزائر يؤكد أن السلطات المغربية بدأت تعيد حساباتها في مقاربة التعامل مع الجزائر وتأكدت أن سياسة "التغنانت والمقامرة والعناد" التي اعتمدتها لا تتماشى أبدا مع الممارسة الدبلوماسية التي تعتمد الليونة والتكيف البراغماتي مع المواقف وخاصة إذا كان الأمر يخص بلدا جارا وشقيقا كالجزائر. كما أن السياق الزمني الذي جاءت فيه زيارة بوريطة والمنصوري وحضور منسق الأجهزة الأمنية الجزائرية الجنرال عثمان طرقاق جلسة الاستقبال التي خص بها الوزير الأول عبد المالك سلال الوفد المغربي، ندرك أن السلطات المغربية اقتنعت أن سياسة إدارة الظهر للجزائر يضر بمصالحها أكثر مما ينفعها. وحتى إن جاء بيان الوزارة الأولى الذي أعلن عن زيارة الوفد المغربي، مقتضبا وبروتوكوليا إلا أن قراءة متأنية لما بين سطوره تؤكد أن استقبال الوفد المغربي في يوم جمعة يؤكد أهمية ما حوته الرسالة الملكية إلى رئيس الجمهورية. والمؤكد أن الرباط عندما اضطرت إلى إرسال وزيرها المنتدب للشؤون الخارجية ومدير أجهزة مخابراتها تكون قد تبنت مقاربة أكثر عقلانية في تعاطيها مع جارتها الشرقية التي عادة ما تحملها كل تبعات مشاكلها الخارجية والداخلية على السواء. فهل يمكن اعتبار ذلك خطوة أولى على طريق إعادة تطبيع علاقات بلدين محوريين في تكتل مغاربي اصطدم بمواقف مغربية رافضة لمبدأ التعاون الإقليمي ما لم تذعن أطرافه الأخرى لنزعتها التوسعية في الصحراء الغربية؟. لكن هل مجرد بعث رسالة ملكية إلى رئيس الجمهورية كافية لتسوية خلافات عميقة ترسبت على مدى 22 عاما من القطيعة والحدود المغلقة؟ سؤال يفرض نفسه خاصة أن علاقات مجمدة بين بلدين بعد كل هذه المدة يستدعي جلسات متأنية لانطلاقة صلبة لتفادي العودة في كل مرة إلى نقطة البداية وعدم إخضاعها لنزوات سياسية ظرفية غير محسوبة العواقب. يتذكر الجزائريون كيف تعاملت الرباط مع حادثة تفجير فندق مراكش صيف سنة 1994 بمزايدة واتهامات غير مؤسسة وتعالٍ ما كان ليصدر من دولة شقيقة كانت العقلانية تستدعي أن تقف إلى جانب جارتها في محنة محاربة إرهاب مقيت وراحت تفرض التأشيرة على الرعايا الجزائريين بعد أن لفقت تهمة تلك التفجيرات إلى المخابرات الجزائرية بزعم قتل السياحة المغربية. هي تهمة نفاها وزير الخارجية المغربي الأسبق، إدريس البصري مباشرة بعد إبعاده من منصبه من طرف الملك محمد السادس ضمن صحوة ضمير متأخرة. وقال معترفا إن المخابرات الجزائرية بريئة من تهمة لم تجن منها الدول المغاربية سوى كوارث مازالت تبعاتها قائمة إلى حد الآن. واعتقد الملك المغربي الراحل الحسن الثاني حينها أنه بذلك يستطيع لي ذراع الجزائر اعتقادا منه أنها في موقع ضعف، ليتفاجأ برد أكثر جرأة وحزما عندما تعاملت مع قراره بالمثل قبل أن تتخذ قرارا سياديا بإغلاق الحدود البرية بين البلدين. المغرب عمد إلى استقبال الأمير الوطني للجماعة الإسلامية المسلحة "الجيا" عبد الحق العيايدة نكاية في الجزائر وراحت تساومه للتخابر معها دون مراعاة المصلحة المشتركة واعتقادا منها أن نار الآفة التي اكتوت منها الجزائر لن تطاله وأنه في منأى عنها وقبل ذلك أمير آخر سعيد المخلوفي. وهي تصرفات استثمرت في الوضع الصعب الذي كانت تمر به الجزائر ولكنها كشفت عن ضيق أفق ونظرة محدودة لدولة كان يتعين أن تكون سندا لمواجهة فكر متطرف جعل زهق الأرواح وإراقة الدماء سجلا تجاريا لفرض منطقه على شعب بأكمله قبل أن تلتهم نيران التطرف بعد ذلك المغرب وكل بلدان العالم دون حدود أو لون أو عرق أو دين، آخر ويلاته ما حدث في نيس الفرنسية مؤخرا. ويبدو أن حضور المنصوري نفسه إلى الجزائر وهو المكلف بملاحقة وتفكيك الخلايا الإرهابية في بلاده وتحصينها من سرطان الإرهاب، يؤكد أن الرباط اقتنعت "متأخرة" أنها لن تتمكن من النجاح في مهمة أخطبوطية لخلايا سرية ونائمة دون مساعدة الآخرين. هي المقاربة التي ما انفكت الجزائر تطالب بها حد الإلحاح وهي تواجه تسعينيات القرن الماضي المنطق التدميري للجماعات الإرهابية ولكنها لاقت آذانا صماء وعيونا لا تبصر وضمائر لا ترحم من قبل دول "شقيقة" كان يجب أن تكون أول سند لها وكان المغرب إحداها. بعد استفحال الظاهرة وتفاقمها على الجميع، عاد الكل ليقولوا إننا أسأنا فهم الجزائر، وهو الاعتراف الضمني الذي يكون المنصوري وبوريطة قد حملاه إلى الجزائر في رسالة الملك محمد السادس. وهو احتمال مطروح جدا إذا سلمنا بالسياق الإقليمي والدولي الذي جاءت فيه هذه الزيارة المفاجئة والتي تزامنت مع عملية الدهس الجماعي بمدينة نيس الفرنسية وقبلها تفجيرات العاصمة البلجيكية شهر مارس الأخير وتفجيرات ملعب فرنسا شهر نوفمبر من العام الماضي والتي كرست المعطى الأمني بتموقع تنظيم الدولة الإسلامية في دول الضفة الشمالية للبحر المتوسط بما أصبح يشكل خطرا على الدول المغاربية تحت طائلة تهمة الإرهاب لرعاياها المقيمين في أوروبا واستدعى موقفا مغاربيا موحدا. كما أن تفطن مصالح الأمن الجزائرية لتدفق مجموعات شبان مغاربة على ليبيا عبر المطارات الجزائرية بدعوى البحث عن فرص عمل هناك قبل أن يتأكد انضمامهم إلى صفوف هذا التنظيم الإرهابي معطى آخر يكون قد جعل أجهزة الأمن المغربية تعيد حساباتها وتتفطن لمثل هذا الخطر في حالة تمكنهم من العودة إلى المغرب. والمؤكد أن السلطات الجزائرية تكون قد تفهمت الانشغالات المغربية التي فرضت زيارة الجمعة الماضي ولكنها لا تريد التسرع في إعادة العلاقات إلى سابق عهدها ما لم يتم ضبطها على أسس وقواعد أكثر إحكاما وصلابة لانطلاقة أكثر ضمانا أو دواما واستمرارية، ومن ثمة يكون فتح الحدود إجراء وقرار عادٍ وطبيعي. وهي الرغبة التي عبر عنها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في رسالة بعث بها إلى الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى السابعة والعشرين لميلاد اتحاد المغرب العربي يوم 18 فيفري الماضي عندما دعا إلى وحدة مغاربية أصبحت "أكثر من ملحة" ولكنه شدد التأكيد أن ذلك "يستدعي التعجيل بإدخال إصلاحات عميقة وجوهرية لتفعيل الاتحاد المغاربي وهياكله وتكييف منهجية عمله وفق رؤية واضحة تفرضها المتغيرات المتسارعة إقليميا ودوليا والتهديدات التي تترصد المنطقة وبقناعة أنه "لا مفر من استكمال بناء الاتحاد في ظل الظروف التي لا تقبل أي عمل منفرد أو متقوقع". يستدعي الموقف هنا التأكيد على أن الجزائر كانت منذ البداية مع إعادة فتح الحدود ولكن شريطة تصفية الأجواء السياسية والاقتصادية والأمنية. واقترحت تشكيل لجان ثنائية مشتركة لأجل ذلك، ولكنها مقترحات بقيت مجرد حبر على ورق بعد أن رفضت الرباط بحث جوهر الخلافات وتسويتها بصفة نهائية لإقامة علاقات "رابح رابح" وراحت تسوف في معالجتها بدعوى موقف الجزائر من قضية النزاع في الصحراء الغربية. فلم يعد معقولا مثلا أن يتدفق مليون جزائري كل عام على المغرب وما يدره ذلك من أموال طائلة بالعملة الصعبة على الخزينة المغربية وتستقبل الجزائر في المقابل آلاف الأطنان من القنب الهندي المغربي ضمن "إرهاب" أكثر دمارا يتم وفق إستراتيجية إغراق مدروسة في أعلى دوائر صناعة القرار المغربي؟! هو الأمر نفسه بالنسبة لشبكات تهريب البشر المغربية التي جعلت من الحدود الجزائرية منافذ لها لإقناع المهاجرين الأفارقة بحلم اللجنة الأوروبية قبل أن تدفع بهم دفعا إلى الجزائر كلما ضاق الخناق عليها. وإذا سلمنا أن الحدود بين الدول جعلت لتبادل الخيرات والمصالح وليس للغلق الأبدي، فإن فتحها يستدعي إرادة صادقة لجعلها نقاطا للتبادل البيني النافع وليس لصالح طرف على حساب طرف آخر وهو ما تعرفه الحدود الجزائرية المغربية في الوقت الراهن فهل ستكون زيارة بوريطة والمنصوري بداية لعهد جديد وعلاقات أكثر متانة بين بلدين حكمت عليهما حدودهما بالتعايش أكثر من التنافر؟.