تسعى الجزائر إلى إقامة شراكة استثنائية مع فرنسا، تعمل على توسيع التعاون الحالي بين البلدين وترقيته إلى مستوى أفضل مما هو عليه في الوقت الراهن، في ظل إرجاء مشروع "معاهدة الصداقة" التي كان متوقعا إبرامها في نهاية 2005، غير أنها تعطلت بسبب الجدل الذي أثارته الجمعية العامة الفرنسية بقانونها الممجد للإستعمار ورفض السلطات الفرنسية الاعتراف بجرائمها المقترفة إبان الحقبة الاستعمارية· لا شك أن النقطة الرئيسية التي ينتظر أن تطغى على زيارة الرئيس الفرنسي السيد نيكولا ساركوزي إلى الجزائر المرتقبة من 3 إلى 5 ديسمبر المقبل، تخص تسويق فكرة الاتحاد المتوسطي التي أطلقها مؤخرا، والتي لم تعارضها السلطات الرسمية الجزائرية، لكنها طالبت بتفاصيل أكثر حولها وتفسيرات عن فحواها ومغزاها، فضّلا عما يمكن أن تقدمه باريس من خلال هذا المشروع كجديد، مقارنة بما تطرحه مختلف المبادرات القائمة على غرار مسار برشلونة ومجموعة (5+5) والشراكة الأطلسية المتوسطية والشراكة في إطار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا وغيرها من أطر التعاون المشتركة التي تهتم بنفس المسائل المقترحة في "الاتحاد المتوسطي"· وبرأي العديد من المراقبين فإن السيد ساركوزي يكون قد لجأ إلى فكرة إنشاء هذا الاتحاد من منطلق براغماتي بحث، في ظل الهاجس الأمني والطاقوي السائد اليوم في فرنسا، حيث يسعى عبر فكرة الاتحاد المتوسطي إلى ضمان أمن فرنسا البشري والطاقوي مع تصاعد تحدي الهجرة غير الشرعية والتهديدات الأمنية· وقد توقع الرئيس الفرنسي في ختام زيارته إلى الجزائر في جويلية الماضي، بأن تكون زيارته المرتقبة مثمرة، "تسفر عن نتائج ملموسة"، مشيرا إلى أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عبر له عن رغبة الجزائر في الاستعداد لفترة ما بعد الطاقة، واعتبار فرنسا شريكا اقتصاديا·· يساعد الجزائر في طريق التنمية"· ولفهم مستوى العلاقات السياسية التي تجمع الجزائروفرنسا في ظل المتغيرات الجديدة التي صاحبت قدوم الرئيس نيكولا ساركوزي إلى رئاسة الجمهورية، يمكن الانطلاق من التصريحات الأخيرة التي أدلى بها رئيس الدبلومايسة السيد مراد مدلسي في ختام الزيارة الأخيرة لساركوزي إلى الجزائر، حيث وصف الوزير مدلسي هذه الزيارة الأولى للرئيس الفرنسي خارج أوروبا بعد اعتلائه سدة الحكم، بالبراغماتية والحاملة لإرادة الإرتقاء بالعلاقات بين البلدين، مسجلا الصراحة الكبيرة التي تميزت بها المحادثات التي جمعت الرئيسين بوتفليقة وساركوزي عزمهما على رفع مستوى العلاقات الثنائية والتوجه نحو العمل الملموس خلال الزيارة الثانية المرتقبة ابتداء من الغد· غير أنه عند التطرق إلى مبدأ "واجب الذاكرة" قال وزير الخارجية، أنه "إذا لم ننس الماضي المكتوب أو غير المكتوب فيجب علينا إذن ألا نمحوه"، في إشارة صريحة إلى أن الجزائر ستظل متمسكة بضرورة الاعتراف بالماضي الأليم الذي اقترفته فرنسا في الجزائر، وهو ما يؤكده قول الوزير في هذا الصدد: "إذا كان من البديهي أن نوجه جميعنا أنظارنا نحو المستقبل فإنه من البديهي أيضا أن لا ننسى هذا الماضي" · أما بخصوص مشروع الإتحاد المتوسطي الذي يقترحه الرئيس الفرنسي على دول المنطقة، فقد اعتبره وزير الخارجية تكملة لتسيير الفضاءات المشتركة في مجال مكافحة التلوث واللاأمن، وتصورا حول منطقة متوسطية يسودها السلم والأمن لمواجهة كل التهديدات، مبرزا في هذا الإطار، الإرادة الفرنسية في رسم معالم هذا الإتحاد مع الجزائر وتحديد الطرفين لأجل أقصاه سنة لتوضيح المفهوم· وبعد أن عرّج على ملف شائك لا يزال لم يلق بعد التوافق الكامل بين الجزائروفرنسا وهو الملف الذي يشمل المسائل البشرية والذي يعتبره الطرف الجزائري غير كاف، في مستواه المتعلق بالتشريعات الفرنسية، تطرق السيد مدلسي أيضا إلى مسألة الصحراء الغربية، التي تتخذها فرنسا أحيانا كورقة لاستفزاز الجزائر، من خلال موقفها المبهم إزاء القضية· فيما لا تطالب الجزائر في إطار هذه القضية التي تعتبر قضية تصفية استعمار، أكثر من ترك الملف لهيئة الأممالمتحدة لمعالجته وفق الشرعية الدولية وفي إطار اللائحة 1754، مع تشجيع الحوار بين الطرفين المتنازعين المتمثلين في المغرب وجبهة البوليزاريو· ولا تزال الجزائر متمسكة بإقامة صداقة مع فرنسا، تبنى على أساس مصالح متكاملة بين بلدين لهما سيادتهما الكاملة، بل أكثر من ذلك كان يفترض أن ترتقي العلاقات الجزائرية والفرنسية إلى مستوى استثنائي بالنظر إلى عدة عوامل مشتركة ومتميزة، كانت ستفضي إلى توقيع الرئيسان عبد العزيز بوتفليقة وجاك شيراك معاهدة صداقة قبل نهاية عام 2005، لولا أن الأمر تم كبحه بسبب الزوبعة التي أثارها القانون "الإستفزازي" الممجد للإستعمار، سيما في مادته الرابعة التي مست بشكل مباشر، مشاعر الجزائريين وغير الجزائريين من المناهضين للعنصرية، غير أن الرئيس ساركوزي أعلن استبدال هذه المعاهدة بنظرة جديدة للتعاون وتخدم المصالح المتبادلة، من منطلق أن الصداقة بين البلدين أكبر من أن تدون في معاهدة· على صعيد آخر فقد عرفت الآونة الأخيرة حدثا مميزا في مسار المطالبة بنفض الغبار عن التاريخ المشترك بين البلدين، حيث استلمت الجزائر أخيرا خرائط الألغام التي زرعها الجيش الفرنسي بخطي "شال" و"موريس" الممتدين على الحدود الجزائريةالغربية والشرقية، وجاء ذلك موازاة مع بروز فئة من المثقفين الفرنسيين الجدد، تطالب من حكومة بلدها الاعتراف بالجرائم الوحشية التي اقترفتها فرنسا الاستعمارية في حق الجزائريين إبان الحقبة الاستعمارية· واعتبرت هذه الخطوة تقدما جليا باتجاه الاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر، واستجابتها لإحدى أبرز المطالب الجزائرية من ضمن جملة من المطالب الملحة التي تشمل أيضا مراجعة قانون تمجيد الاستعمار وتسليم أرشيف الاستعمار والاعتذار عما ما تسببت فيه التجارب والتفجيرات النووية التي أجرتها فرنسا بالصحراء الجزائرية، سيما وأن عملية تسليم الخرائط صاحبتها رسائل إيجابية، تضمنت تأكيد السلطات الفرنسية على رغبتها في التقدم نحو "إزالة الحواجز الموروثة من الماضي وأملها في بناء علاقات ثقة مع الجزائر"، وهي بذلك محاولة من فرنسا لتبديد الغيوم التي تلبد أجواء العلاقات الجزائرية الفرنسية، سيما وأنها جاءت في سياق التمهيد للزيارة التي يقوم بها الرئيس الفرنسي إلى الجزائر·