ما قاله رئيس الجمهورية في ذكرى مجازر 8 ماي 1945 بخصوص الماضي الاستعماري لفرنسا وشروط بناء صداقة حقيقية مع باريس، أعاد من جديد فتح صفحة أخرى من الجدل الذي أثير قبل ثلاثة أعوام حول مسألة الاعتذار بعد تبني الجمعية الفرنسية لقانون 23 فيفري الذي تحدّث عن مزايا الحقبة الاستعمارية. تأتي تصريحات الرئيس بوتفليقة بالتزامن مع التحضيرات الجاري إعدادها للزيارة المرتقب أن يقوم بها شهر جوان المقبل إلى باريس، وهي الزيارة الرسمية الأولى التي سيقوم بها في عهدته الرئاسية الجديدة، وإن كان مضمون الرسالة التي بعث بها بوتفليقة بمناسبة الاحتفال بمجازر 8 ماي 1945 لم يكن بالحدة التي عوّدنا عليها فإنها تكشف مرة أخرى عن إرادة الجزائر تجاوز مرحلة التشنج مع باريس بشأن الماضي الاستعماري الفرنسي، ويبدو من رسالة الرئيس أن الجزائر لن تتنازل عما هو حق مشروع لا بد من الطرف الفرنسي إدراكه والاعتراف به إن أرادت فعلا الدخول في مرحلة جديدة من التعاون. فالجزائر مثلما عبّر عن ذلك رئيس الجمهورية تجدّد رفضها لما جاء في قانون 23 فيفري 2006، كما ترفض كذلك كل ما قيل عن "إيجابيات الاستعمار" خاصة مع ما وقع من بشاعة الجرائم التي ارتكبت في حق الآلاف من الجزائريين في 8 ماي 1945 وما تبعها فيما بعد من مجازر طيلة مرحلة ثورة التحرير. وبذلك تعيد الرسالة الأخيرة للرئيس بوتفليقة إلى الأذهان الموقف الذي أبداه قبل ثلاث سنوات بشأن الماضي الاستعماري الفرنسي حينما اشترط على باريس ضرورة الاعتراف بجرائمها وتقديم اعتذار رسمي للجزائريين، وهو الموقف الذي لقي صدى كبيرا داخليا من خلال التحرّك غير المسبوق لجمعيات ومنظمات المجتمع المدني التي انساقت وراء الطرح الرسمي وما تبع ذلك من جدل وبرودة في العلاقات الثنائية مما ألزم الرئيس ساركوزي زيارة الجزائر على مرتين للحديث عن الموضوع. وكان المؤرخ الجزائري الدكتور أحمد القورصو، رئيس جمعية الثامن ماي حينذاك، أول من كشف التفاصيل الخطيرة التي تضمنها قانون 23 فيفري 2006 بنشره بنوده واحدا واحدا، وقد حصل ذلك في ذكرى مجازر سطيف، قالمة وخراطة، وقد حصل التجاوب مع الموقف الجزائري من طرف جمعيات تنشط داخل فرنسا وشخصيات أخرى فاعلة طالبت بدورها بإلغاء بنود القانون الممجدة للماضي الاستعمار الفرنسي، وصلت إلى حد تجميد التدابير التي تم اتخاذها بشأن التحضير لتوقيع معاهدة الصداقة التي اتفق عليها الرئيسان بوتفليقة وشيراك في مارس 2003. والواقع أن ما قاله رئيس الجمهورية يعيد طرح الكثير من الملفات العالقة بين الجزائر وباريس، ولو أنه ليس من المبالغة الإشارة إلى أن مثل هذه الملفات المتعلقة بالتاريخ لم تؤثر على الإطلاق على المسار الطبيعي للتعاون الاقتصادي بين البلدين الذي عرف الاستقرار وبقيت فرنسا في ريادة البلدان الشريك للجزائر، فالصداقة الخالصة التي تحدث عنها عبد العزيز بوتفليقة وحرص على تبليغها إلى الطرف الفرنسي مرهونة في نهاية المطاف بتغيير في طريقة التعامل مع عدد من القضايا التي تتسم بالحساسية خاصة فيما يتعلق بتحديد المسؤوليات التي تمهد الطريق نحو تقديم الاعتذار. لقد كان يعاب كثيرا على الطرف الرسمي الجزائري أنه ترك مطلب الاعتراف والاعتذار مجرد خطابات موجهة للاستهلاك من طرف عدد من الجمعيات والمؤسسات التي تعنى بالقضايا التاريخية، ولكن تأكيد بوتفليقة هذه المرة في مسألة التاريخ يحمل مؤشرات إيجابية على أن السلطات الجزائرية تأخذ ملف الماضي الاستعماري الفرنسي محمل الجد، وعليه فإن معاهدة الصداقة ستعود إلى الواجهة بالقدر الذي تعود فيه ملفات عرف التعامل معها من قبل "فرنسا الرسمية" بحساسية مفرطة لأنها تدين بما لا يدع مجالا للشك "فرنسا الاستعمارية".