هي واحدة من المناطق المثقلة بالأحداث التاريخية والمميزة بالجمال الطبيعي في ولاية بسكرة.. تأخذ تألقها من الآثار المتبقية بها.. إنها بلدية خنقة سيدي ناجي أو أم القرى التي تعد من المدن الجزائرية ذات التاريخ العريق، فمن كل تلك الحركية التي صنعت بها التاريخ والعلم والأصالة في سنوات خلت لم يبق اليوم بها سوى بعض البيوت المبعثرة هنا وهناك وعدد من النخيل وآثار السوق القديم إلى جانب المساجد، المباني الخربة.. وبقاياها الصامتة، لكنها تشهد منذ بضعة أشهر انطلاقة جديدة لتخرج عن صمتها بفضل أشغال الترميم الجارية بها وبعض المشاريع والبرامج الواعدة التي يعول عليها لإحداث التنمية المحلية من خلال تطوير نشاطات الصناعة التقليدية، وهو ما وقف عليه وزير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والصناعة التقليدية السيد مصطفى بن بادة مؤخرا، حيث أشرف على تدشين مصنع الحرف التقليدية بها في إطار زيارته لولاية بسكرة التي احتضنت فعاليات اليوم الوطني للصناعة التقليدية من 08 إلى 10 نوفمبر المنصرم.. تاريخ أم القرى، أسباب هجرها والآفاق الواعدة لإعادة إحيائها تختصرها "المساء" في هذا الروبورتاج. تقع خنقة سيدي ناجي بالجنوب الشرقي للأوراس على الضفة الشرقية لوادي العرب وهي إحدى البلديات التابعة لدائرة زريبة الوادي، تبعد عن الدائرة ب 25 كلم وتتوسط ولايتي بسكرةوخنشلة بمسافة 105كلم( الطريق الوطني 83 يحدها من الشمال بلدية الولجة ومن الشرق بلدية جلال ومن الجنوب والغرب بلدية زريبة الوادي ومن الشمال الغربي بلدية كيمل
وبداية تأسيسها رؤية! تأسست بلدية خنقة سيدي ناجي في عام 1946 ويقطنها حاليا حوالي 5 آلاف نسمة... كتب عنها الدارسون والرحالون قبل عهد الاحتلال الفرنسي ما يبعث على الوقوف على ما بقي من آثارها، كانت خنقة سيدي ناجي قبل تأسيسها عبارة عن غابات ونباتات متنوعة من أشجار العرعار والقصب، تحيط بها الجبال من جميع الجهات ويجري بها وادي العرب، ويذكر أنها عرفت بمورد النعام نتيجة لرؤية رآها سيدي المبارك في المنام طلب منه فيها التوجه إلى هذا المكان، فحل به مع عدة قبائل (صدراتة - هزابرة - زهانة - دريد -زناته - روقه - نهد) مع بداية القرن الحادي عشر للهجرة 1010ه /1602م وبنى به زاوية للصلاة جعلت منه مركزا للعلم والمعرفة، فبلغت خنقة سيدي ناجي مبلغا قل ما وصلت إليه أي منطقة في تلك الحقبة. ورغم أن تلك القبائل واجهت عدة صراعات وضغوطات من القبائل المجاورة إلا أن سيدي المبارك واصل العمران والنشاط، وقام مع أتباعه بغرس أشجار النخيل، وظهرت البلدة في أول صورها على شكل حي صغير يدعى كرزدة والذي تم هدمه إبان الاستعمار الفرنسي، حيث لم يبق منه سوى بعض الآثار التي لازالت إلى يومنا هذا خير شاهد على ذلك الحي. وقسمت خنقة سيدي ناجي إلى خمسة أحياء وهي: كرزدة، السوق، موسى، صدراتة، الواتة. أما حارة الحبس فقد تركت وقفا على من قصدها ولم يجد مأوى. ويعود التقسيم إلى خمسة أحياء تيمنا وتبركا بأركان الإسلام. وسميت المنطقة بخنقة سيدي ناجي من طرف سيدي المبارك بدلا من اسم مورد النعام، تبركا بجده سيدي ناجي الأكبر وهو مدفون في ضريح بساحة النخيل بتونس العاصمة، وتروي الحقائق التاريخية أن البلدة كانت محاطة بسور له بابان يغلقان ليلا، بهما حراس يعملون بالتناوب، والسور مازال قائما إلى اليوم. كما أحيط كل من الأحياء الخمسة بسور له بابان كذلك. كانت هذه البلدة مصدر إشعاع يؤمها طلاب العلم من كل ناحية، حيث كونت رجالا خدموا الوطن بفضل المدرسة الناصرية التي بنيت عام1171ه الموافق ل 1758م على يد الشيخ احمد بن ناصر بن محمد بن الطيب.وكان بها نظام داخلي،حيث كان إطعام الطلبة الوافدين على حساب القائمين على مسجد سيدي المبارك. وساهمت هذه المدرسة في نشر العلوم الشرعية واللغوية، حيث تخرج منها العديد من العلماء تابع بعضهم دراستهم في جامع الزيتونة بتونس والجامع الأزهر. وعلى الصعيد الاقتصادي كانت الفلاحة أهم المصادر لجلب القوت بالمنطقة، حيث اشتهرت بإنتاج التمر المعروف بالتمر الذهبي العلكي، وكذا الحبوب من قمح وشعير، حيث كانت هذه المنتوجات تلقى رواجا كبيرا في السوق المحلي للبلدة الذي يؤمه التجار من كافة أنحاء القطر وكذا من الدول المجاورة، أما عن الحرف فظهرت بكثرة منها: الصياغة التي كانت تمتهن من طرف عائلة بوغديري وكذلك الحدادة،الحياكة والصيدلة، إذ اشتهرت عائلة قوبع التي استخدمت الأعشاب الطبية في تحضير جل الأدوية النافعة، اعتمادا على الطرق المنتهجة من طرف العلماء المسلمين، كما اشتهرت بصناعة العطور، إضافة إلى بعض الأنشطة الرياضية: سباق الخيل، الصيد، السباحة والرماية. أما في فترة الاستعمار الفرنسي عاش سكان هذه البلدة في وضعية جد صعبة كغيرها من المناطق الأخرى، ومنه بدأت الحركة الوطنية تظهر من خلال مشاركة بعض الشباب في الأحزاب المناهضة لسياسة فرنسا، وانطلقت في جبال الأوراس وإلى حدود البلدة انتفاضات الثائرين على الأوضاع، وبعد اندلاع الثورة تم استحداث مكتب عسكري لاستنطاق المشتبه فيهم وتسليط مختلف أنواع العذاب عليهم. ومنه تحرك الشعور بالوطنية في نفوس شبابها، فأخذوا يلتحقون بإخوانهم المجاهدين. ومن بين شهداء البلدة مسؤول المنطقة الثانية من الولاية الأولى محمد صالح بلعباس الذي سميت عليه مدرسة ابتدائية، حيث سقط 52 شهيدا من أبناء البلدة.
شواهد عن إبداع الأسلاف هذه الحقائق باجتماعها شهادة على أن خنقة سيدي ناجي معلم للآثار والعلم والأصالة، ففي هذه البلدية نرى الحب الذي نكنه للآثار لأنها شواهد عن الأسلاف، ويحيط بنا سكون مثالي ومناظر خلابة وواحات نخيل تشكو قلة العناية. قلة هم السكان الذين لم يهجروا النواة القديمة بخنقة سيدي ناجي، حيث أن البيوت التراثية الخالية أهم عنوان للهجر الذي دفع بالكثيرين إلى التوجه نحو الخنقة الجديدة بعد أن استهواهم النمط المعماري الحديث، كان من المدهش أن نكتشف تلك البيوت القديمة التي تعود في معظمها إلى600 سنة والمميزة بهندستها وعناصرها الطبيعية من حجر، خشب، نخيل وطين، فالبلدة المهجورة تأخذ تألقها من طبيعتها الساحرة وروح الماضي التي تنبعث في كل أنحائها، كان هذا أهم ما لمسناه يوم زيارتنا للمنطقة بتاريخ 10 نوفمبر 2008 الذي كان فرصة للالتقاء مع بعض سكان ومسؤولي خنقة سيدي ناجي، فجاءت شهاداتهم لتكشف عن واقع هذه البلدية بين الماضي والحاضر. تشكل بعض الأزقة التي تم تبليطها أهم مظاهر عمليات الترميم التي انطلقت منذ حوالي ستة أشهر تحت إشراف مقاول خاص، إذ يتم التبليط بنفس الطريقة التي كانت شائعة الاستعمال في يوميات سكان خنقة سيدي ناجي الماضية، ووقفنا على بعض أعمال الترميم التي انطلقت بها من خلال جولة استطلاعية مع أحد سكانها، وهو المجاهد عبد الله سالمي(71 سنة) الذي جاء على لسانه أنه منذ 10سنوات بدأ السكان يهجرون خنقة سيدي ناجي القديمة ليتجهوا نحو الخنقة الجديدة، فبعد بناء سد وادي العرب بخنشلة في نهاية الثمانينيات انقطع الماء عن أهل خنقة سيدي ناجي التي كانت تشتهر بإنتاج القمح، الشعير، الزيتون والتمر الذي كان مصدره مليون نخلة لم تعد اليوم منتجة بسبب غياب العناية والسقي، وتقطن بها حاليا 25 عائلة، ولا يوجد بها سوى ابتدائية واحدة تحمل اسم "محمد صالح بلعباس" . هدوء تام كان يسود المنطقة عند تجولنا فيها، منازل بلا سكان مصنوعة بالطين وخشب النخيل بعضها يعود إلى600 سنة أما أحدث منزل فعمره 100 سنة، وهو ملك لعائلة زعيم كما تدل عليه اللافتة، وفيما ما يزال مسجد سيدي المبارك وسيدي عبد الحفيظ شاهدان على ما بناه معمر المنطقة لم يبق من سوق الجزارين سوى بعض الأجزاء المنهارة.
مشاريع متنوعة لإحياء بلدة عريقة تبقى هذه البلدة العريقة بأمس الحاجة إلى مشاريع لتنبض فيها الحياة من جديد وليخرج شبابها من دائرة البطالة التي تتربص بهم.وبناء عليه يقول محدثنا الذي كان موظفا ببلدية خنقة سيدي ناجي خلال سنتي 1995 و1996 اقترحنا مشاريع لإنجاز معمل الرمل، الألمنيوم، الزجاج، الجبس، الطباشير والآجر، وإضافة إلى ترميم المنازل وتبليط الأزقة تجري الأشغال أيضا تحت إشراف مؤسسة الأشغال العمومية للري لولاية بسكرة منذ ستة أشهر لحماية المنطقة من خلال تشييد حاجز يمتد من خنشلة إلى غاية منطقة الفيض التي تبعد عن خنقة سيدي ناجي بحوالي45 كلم، وتدعمت هذه المشاريع الرامية إلى إحياء المنطقة بتدشين وزير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والصناعة التقليدية مصطفى بن بادة لمصنع الفخار، الزجاج بالنفخ والنقش على النحاس،حيث يرتقب أن يفسح المجال لتشغيل 50 شابا، ذلك أن قطاع الصناعة التقليدية أصبح يلعب دورا كبيرا في دعم الإستراتيجية التي سطرتها الوزارة في مجال التنمية المحلية من خلال البرامج الواعدة المعتمدة، على غرار نظام الإنتاج المحلي لإحداث التنمية المحلية عن طريق تطوير نشاطات الصناعة التقليدية. ولا تتوقف الجهود الرامية إلى إنعاش الحياة بخنقة سيدي ناجي عند هذه الحدود، فتبعا لما صرح به السيد قاسي حاتم مدير مركز التكوين المهني والتمهين الكائن بدائرة زريبة الوادي،فإن المنطقة ستستفيد من مشروع إنجاز ملحقة للمركز المذكور آنفا رصد لها مبلغ35مليون سنتيم،إذ يرتقب إنجازها خلال الفترة الممتدة من 2010 - 2013 مما يتيح فرصة الاستفادة من تربصات لأبناء المنطقة في مجال المهن اليدوية التي تشمل: النسيج، البناء العام، البلاط، الفسيفساء، الطرز على القماش، اللباس التقليدي وتربية النحل، أما في مجال استغلال المؤهلات السياحية للمنطقة كشف لنا السيد إبراهيم منجلي،أستاذ متقاعد، أن قصر السطحة الذي خلفه الأتراك بخنقة سيدي ناجي سيستفيد من مشروع تأسيس منتجع سياحي،تشرف عليه وزارة السياحة بالتنسيق مع ولاية بسكرة. هذه المشاريع باجتماعها تكون قد نثرت أملا كبيرا في وسط شباب خنقة سيدي ناجي، باعتبار أنها ستعطي نفسا جديدا للمنطقة المهجورة، وهو ما أكده لنا الشاب سليم إلياس طلب، جامعي تخصص تسيير، ومجموعة من الشبان كانوا برفقته، إذ أعربوا عن رغبتهم في المشاركة في إحياء بلدتهم كونهم لا يريدون التخلي عنها، كما أشار أحدهم إلى رغبته في العودة للإقامة بها، لاسيما وأن المشاريع المسطرة تفسح المجال لتشغيل الشباب الذي يسيطر الفراغ على يومياته. غادرنا خنقة سيدي ناجي بعد أكثر من ساعة من الزمن، وبقي سحر جمالها راسخا في الذاكرة إلى جانب الآثار المتبقية التي تجزم على أنها من المدن التي اتحد فيها التاريخ العريق مع المميزات الطبيعية والمؤهلات السياحية، ومع هذه الذكريات يحوم الكثير من الأمل حول تحويل فكرة إحداث التنمية بالمنطقة وجعلها بمثابة مزار للسياح إلى حقيقة ملموسة على أرض الواقع في غضون السنوات القليلة القادمة.