على امتداد طريق معبد وسط صحراء الحمادة القاحلة وآخر رسمت معالمه عجلات مطاطية متآكلة بفعل العوامل الطبيعية القاسية يرتسم مشهد لم يعهده أعضاء الوفد المشارك في فعاليات إحياء الذكرى ال 33 لإعلان قيام الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية الموافق ل 27 فيفري من كل عام وهم في طريقهم إلى مخيم الداخلة. هو مخيم من بين خمس مخيمات اضطر اللاجئون الصحراويون إلى التعايش مع ظروف الطبيعة القاسية مكرهين طيلة 33 عاما بعد ان اغتصبت أرضهم ولم يجدوا أمامهم إلا خيما لإيوائهم اختاروا له اسم "الداخلة" باسم مدينتهم التي اجتثوا منها اجتثاثا حتى يحافظوا على علاقة عاطفية بأرضهم المغتصبة. ورغم أن الطريق باتجاه هذا المخيم الذي يبعد ب 200 كلم عن مطار تندوف بدا طويلا وشاقا فإن جمال الطبيعة الصحراوية التي رسمتها كثبان رملية مختلفة الأشكال والأحجام وغروب الشمس الذي ألقى بسحره على رمال ذهبية لا متناهية في حمادة شاسعة ينسي العابر له التعب وإرهاق السفر. الداخلة صورة معاناة شعب هدوء وسكينة يخيم على المكان تزيد في راحة وطمأنينة الوافد وتجعله يعتقد أن سكانه نيام أم أنهم هجروه لسبب من الأسباب أم أن الهجيرة تفرض منطقها على الجميع ليبقوا في بيوتهم إلى حين. ولكنه بمجرد أن تطأ قدمك أرض هذا المخيم وتتوغل بين دروبه الرملية يباغتك طفل يلعب وحيدا على مقربة من خيمته أوشاب متكئ على جدار محل مغلق أوتلفت انتباهك ألوان زاهية للباس فتاة صحراوية خرجت لطارئ أوحتى حيوان صغير تاه عن زريبته يوقف سيل تساؤلاتك وتدرك أن الحياة تدب في هذا المخيم وان سكانه يفوقون 20 ألف لاجئ صحراوي. ويكون الزائر في غنى عمن يجيب على أسئلته بمجرد أن تبدأ الشمس في المغيب حتى تتحول تلك السكينة إلى حركية هي أشبه بحركية مدن الجنوب الجزائري حيث تفتح المحالات التجارية الزرقاء اللون أبوابها لمرتاديها هذا يقتني مواد غذائية وأخرى قطعة قماش وآخر شراء بطاقة تعبئة هاتفه وشبان يتهافتون على محل لبيع البتزا وسط ديكور صحراوي ولكن بألبسة أوروبية بينما بقيت العباءة الصحراوية حكرا على كبار السن وبقيت العمامة قاسمهم المشترك يرتديها الكبار والصغار على السواء وقاية من حر الشمس والرياح المحملة بالرمال. والزائر الى الداخلة "المخيم" لا يمكن أن لا يلفت انتباهه عشرات الزرائب والاصطبلات المشيدة بقضبان حديدية لتجميع مواشيهم التي يطغى عليها الماعز وقليل من الشياه يشربون حليبها ويقتاتون من لحومها عند الضرورة. ولأن الحاجة تدفع إلى الابتكار فقد اضطر سكان الداخلة إلى الاستغناء عن خيمهم الخضراء والرمادية التي قطنوها في سنواتهم الأولى من العيش في الشتات بعد أن كانت الرياح الموسمية تعصف بها في كل مرة واستبدلوها ببيوت طينية أكثر مقاومة وأكثر صلابة وبرودة أيضا دون أن يتخلوا عن خيمهم رمز إصرارهم على المقاومة ورفضهم الأمر الواقع الذي يريد المغرب فرضه. وأرجع أحد اللاجئين اللجوء إلى بناء هذه البيوت للاحتماء من الزوابع الرملية التي تقتلع الخيام من جذورها عند هبوبها والأمطار الموسمية التي عادة ما تترك وراءها خرابا ودمارا يجعل الحياة صعبة إن لم تكن مستحيلة. وهو مشهد وقفنا عليه خلال زيارتنا للمخيم عندما صادف وجودنا هناك تهاطل أمطار غزيرة مصحوبة بحبات البرد التي امتزجت بحبات الرمال في مشهد نادر الحدوث تزاوج فيه مناخ الشمال بالجنوب. ورغم أن سقوط الأمطار لم يدم إلا لحظات فإن ذلك كان كافيا لتغرق الخيمة التي كنا فيها في سيل من المياه بعدما ابتلت الأفرشة والأغطية والزرابي المفروشة على أرضيتها الرملية مما خلق نوعا من الارتباك بالنسبة لنا ولصاحبة البيت التي استقبلتنا والتي طلبت منا التمركز وسط الخيمة للاحتماء من قطرات الماء التي ازدادت كثافة على جوانب الخيمة المبتلة. حرقة فراق الأهل والأحباب وبنفس السرعة التي فاجأت فيها العاصفة سكان المخيم فإنها توقفت فجأة وكأن شيئا لم يكن ولكن دقائقها المعدودة كانت كافية لمئات الأطفال الصحراويين ليستغلوا هذا "الحدث الطارئ " وتفريغ شحناتهم في ألعاب مختلفة كيفوها مع محيطهم الصحراوي. وتمحور حديث هؤلاء معنا بالدرجة الأولى حول درجة المعاناة التي يحيونها يوميا بسبب بعد المخيم وانعدام التغطية الهاتفية فيه مقارنة بمخيمات اللاجئين الأخرى التي تتوفر على شبكات هاتفية مختلفة. وهي صور المعاناة التي نقلت حذافيرها الرعبوب محمد لمين، وهي سيدة في عقدها الخامس التي استضافتنا في بيتها والتي لم تستطع التحمل أكثر وهي تشاهد زملاء الإذاعة الوطنية يستعملون الهاتف لبعث مراسلاتهم الصحفية عبر شبكة الثريا. بقيت تتابع المشهد على استحياء ولكنها لم تتمالك نفسها وتشجعت وطلبت من ابنتها استفسار إحدى الزميلات عما إذا كان بإمكانها الاتصال بابنتها التي تدرس بإحدى ثانويات ولاية المسيلة والتي لا تراها إلا بمناسبة عطلتي الشتاء والصيف. وأكدت أنها ليست الوحيدة التي تعيش مثل هذه الوضعية فسألنها كون العديد من العائلات التي لديها أبناء يدرسون سواء في ولايات الجزائر أوفي بلدان أخرى لا يمكن الاتصال بهم إلا مرتين في السنة حيث يتم نقلهم على متن حافلات بالمجان إلى مقر رئاسة الجمهورية الصحراوية بمخيم "رابوني" والقريب من مطار تندوف والذي يضم مختلف الإدارات الرسمية الصحراوية. ولم تتردد الزميلة في الإذاعة في تلبية طلب الأم ومنحتها هاتف الثريا التي تحمله في إطار مهمتها وكم كان المشهد مؤثرا عندما لم تتمالك أنفاسها بمجرد سماع صوت ابنتها واغرورقت عيناها بالدموع وهي تسألها عن حالها وصحتها ودراستها وامتزجت نبرات صوتها بحنين ضم فلذة كبدها وبالفرحة لسماع صوتها. وبين قساوة الحياة وحنين العودة إلى أرض الوطن المغتصبة وفي مشهد أكثر مأساوية جلست إلى جانبنا خديجة داخل خيمة كبيرة منصوبة بمقر دائر بوجدور إحدى الدوائر السبع المشكلة لمخيم الداخلة وراحت تسرد معاناتها مع الفرقة والبعد عن الوالدين. هي سيدة تجاوزت عقدها الرابع بزيها الصحراوي التقليدي "الملحفة" برسوم زهرية والذي يلف كامل جسدها بنفس لون عينيها العسليتين وبشرتها السمراء لترسم بذلك طبيعة المرأة الصحراوية. وبمجرد الجلوس إليها ارتسمت على شفتيها الرقيقتين ابتسامة جميلة ولكن ذلك لم يمنع الدموع من ان تغلبها وتخون ابتسامتها وسارعت الى القول بصوت مبحوح متقطع "أنا أم لثمانية أطفال وزوجي كان مقاتلا في صفوف جيش التحرير الصحراوي" ثم صمتت برهة وواصلت حديثها بعناء وحرقة على عائلتها التي تركتها قبل 33 عاما في مدينة الداخلةالمحتلة. فقد اضطرت إلى مغادرة المدينةالمحتلة بعد عام من الاحتلال المغربي للأراضي الصحراوية ليستقر بها المقام في الأخير بعد زواجها في مخيمات اللاجئين ومنذ ذلك التاريخ لم تر عائلاتها ولا تعرف إخوتها الذين ولدوا بعد الاحتلال المغربي. وحاولت السيدة خديجة إخفاء ألمها وحزنها ولكن نبرات صوتها الخافت ونظرات عينيها التي كانت تتطلع إلى أفق بعيد فضحت شوقها إلى أحضان والديها وإخوتها. وقالت أنها تنتظر دورها على قائمة تبادل الزيارات بين العائلات على جانبي "جدار العار" الذي أقامه المغرب لتقسيم أراضي الصحراء الغربية والتي تتكفل بها بعثة الأممالمتحدة من أجل تنظيم استفتاء في الصحراء الغربية "المينورسو". سألناها كم يتطلب الوقت لتنفيذ مثل هذه الزيارات التي تلم ولو للحظات شمل عائلات صحراوية تفرق أفرادها بين الشتات والملاجئ فأجابت بابتسامة ارتسمت على شفتيها الداكنتين وحملت معها التمسك بالأمل "الأمر يتطلب بضع سنوات" وأضافت "هناك عائلات قدمت طلباتها منذ أكثر من ثلاث سنوات ولا تزال تنتظر دورها إلى حد الآن". ولخصت حالة هذه السيدة معاناة كل العائلات الصحراوية التي فرض عليها الاحتلال المغربي الذي فرق بين الأب وابنه والبنت وأمها بل وشرد عائلات بأكملها في مأساة صمت عنها العالم وتجاهلها إلى درجة أصبحت قضيتهم تنعت ب "القضية المنسية". شح المساعدات الإنسانية وإذا كانت السيدة خديجة تحدثت عن حرقة فراق الأهل والأحباب فهناك من أراد أن ينقل لنا تلك المعاناة التي يعيشها كل لاجئ وسط شح المساعدات الإنسانية وقلة فرص العمل والفراغ الكبير الذي يتخبط فيه شباب المخيمات. وبدون تردد اشتكت السالكة وهي فتاة في العشرين من عمرها من ظروف المعيشة الصعبة في المخيمات وقالت إننا نضطر إلى التقوت بلحم الجمل والتمر وحليب الإبل والماعز حتى نتمكن من المقاومة ومواصلة العيش. وهو الواقع الذي يمكن لأي وافد أن يقف عليه من خلال طفل صحراوي كان يرتدي ملابس بالية وبقدميين حافيين عندما انقض على كيس كان بداخله حبات موز ليجد نفسه محاطا بالعشرات من أقرانه الذين حاولوا مقاسمته غنيمته... مزرعة الأمل وإذا كانت حياة الصحراويين في المخيمات اقترنت بكل تلك المشاهد المأساوية ولكن مع إصرار في الوصول إلى الهدف المنشود المتمثل في الحرية والإنعتاق فإنهم رفضوا الرضوخ لليأس والخنوع لسيطرة استعمارية مقيتة. وكم كانت مفاجئتنا كبيرة عندما رأينا رمز ذلك التحدي ممثلا في مزرعة نموذجية أراد أصحابها من خلالها تأكيد مقاومتهم وسط بحر من الرمال. فقد بعثت خضروات الخس والجزر والبصل والبطاطا وحتى البطيخ... ذلك الأمل لتحدي ظروف الطبيعة القاسية وتحدي فكرة الاستعباد التي أراد المغرب فرضها عليهم طيلة ثلاثة عقود وفشل في تحقيقها. وتمكن المشرفون على هذه المزرعة النموذجية من تجسيدها بفضل مساعدة مالية أوروبية لم تكن في الأصل موجهة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي لسكان المخيم بقدر ما كان الهدف منها خلق نشاط إنتاجي يجعل من الذين يخدمون الأرض ينسون ولو للحظات معاناة أراد الاستعمار المغربي أن تطول على سكان الساقية الحمراء وواد الذهب. صور التحدي لم تقتصر على إقامة مثل هذه المزرعة النموذجية فقد تعدتها إلى محاولات النساء الماكثات في البيوت اللائي أصررن على إظهار مواهبهن في مجالات مختلفة من نقش على الأواني وصناعة الزرابي والحلي بمختلف الأشكال والألوان تفننت أنامل صحراويات سيدات وفتيات في مقتبل العمر على تحويل مواد من فضة وصوف ووبر، إلى لوحات فنية تشهد على عراقة تقاليد سكان الساقية الحمراء ووادي الذهب ولكن أيضا لإثبات الذات ورفض الذوبان في مجتمع من غير المجتمع الصحراوي.