أجمع مجاهدون من ولاية تيزي وزو، ممن كافحوا ضد الاستعمار الفرنسي في ثورة الفاتح نوفمبر 1954، على أن الحرية لم تأت من العدم، إذ كان ثمنها باهظا للجزائر ولشعبها الذي دفعه بدمائه الزكية، مؤكدين على أنهم جاهدوا عبر ولايات تاريخية مختلفة من أجل جزائر واحدة موحدة، موجهين نداء للشباب لحماية الوطن والدفاع عنه لأنه أمانة في أعناقهم، كما دعوا جيل الاستقلال لدراسة تاريخ الجزائر، مؤكدين أنه بمعرفة الماضي تتضح الأمور لرؤية وبناء المستقبل والعمل على حماية مكاسب الثورة وإدراك قيمة الوطن. عشية الاحتفال بعيدي الشبيبة والاستقلال المصادف لتاريخ 5 جويلية 2021، التقت "المساء" بمجموعة من مجاهدي الولايتين التاريخيتين الثالثة والرابعة، الذين أدلوا بشهاداتهم حول ما عايشوه وعاشوه إبان حرب التحرير المظفرة، بمحطاتها وآلامها ومعاناتها وقسوتها، التي ترجمتها لغة العيون قبل الكلمات، لتعبر عن ثمن التحرر من العبودية والاستعمار الغاشم، دموع الحزن على ماض أليم اختلطت بدموع الفرح وهم يستحضرون تاريخي 19 مارس و5 جويلية 1962 اللذين أعادا الفرحة لقلوب الجزائريين والبسمة لوجوه المجاهدين والمسبلين والمعتقلين بأن باب الفرج قد فتح، شهادات تخلد التاريخ في وقت بدأت الجزائر تفقد أعدادا كبيرة من حاملي هذه الذاكرة بوفاتهم وبالتالي فقدان شهادات من حق جيل اليوم اغتنام الفرصة لجمعها وتدوينها وحفظها. المجاهد عثماني اعمر: قدمنا حياتنا فداء للجزائر وأنعم الله علينا بالحرية قال المجاهد عثماني اعمر المدعو "أعمر اورزقي" من منطقة اث زمنزار، إنه لم يكن يتوقع يوما أن يخرج من الحرب ضد الاستعمار الفرنسي حيا، موضحا، أنه "كلما وقع في اشتباك مع المستعمر كان في نظره آخر يوم له في الحياة، مشيرا إلى أن المجاهدين كانوا يؤمنون بالموت من أجل الوطن لكن أبدا لم يتخيل نهاية الحرب يوما، أمام قوة فرنسا الاستعمارية التي تملك دبابات وطائرات وذخيرة حربية كبيرة وقوية. وأعقب المجاهد أن الحرية كلفت ثمنا كبيرا، مشيرا بقوله: "كم من شهيد وشهيدة سقت دماؤهم أرض الجزائر وكم من قبر لا يملك اسما، وكم من يتيم لم يعد له أب وكم من أرملة فقدت نصفها"، مشيرا إلى أنه يوم الإعلان عن الاستقلال كان بمعاتقة عندما بلغه الخبر واصفا ذلك الشعور ب"الحلم"، مواصلا: "لا الكلمة قادرة على التعبير ولا الدمعة، فقط الدهشة والذهول لقد تحقق الحلم"، موضحا أنه بتاريخ 19 مارس عند إنزال العلم الفرنسي ورفع العلم الجزائري لم يكن مصدقا، لكنها حقيقة جاءت بالصبر والصمود والشجاعة والقوة، رغم الضعف والجوع والألم والتعذيب. وذكر المجاهد أنه عندما يخلد للنوم لا يرى الحرية بقدر ما تدور في عقله صور التعذيب وجثث الشهداء مرمية هناك وهناك ومنازل لم يبق منها سوى الأنقاض، والاستيقاظ من النوم أكثر ألما لأن المستعمر لا يزال يسيطر على أرض الجزائر ولا يزال يواصل التعذيب ولم تترك فرنسا أية فرصة لاستعراض قوتها ووحشيتها، حيث يقول: لكن الله كان في عوننا وساعدنا في طردهم"، مثنيا على استرجاع جماجم الشهداء كخطوة تقدير للتاريخ وصناعته، داعيا الشباب لدراسة التاريخ وحماية البلاد وأن يتذكروا كل من ضحى من أجل الوطن والحرية والوحدة الوطنية. وأوضح المجاهد، أنه في عام 61 عشية الاستقلال قرر العودة إلى الولاية الثالثة تاريخيا بعد استشهاد الكثير من الشهداء ممن ناضل معهم، ليواصل ببني زمنزار النشاط إلى غاية وقف إطلاق النار، رفقة سي عبد الحفيظ ياح، سي يوسف وغيرهما، قبل أن يعرج إلى بدايته في النضال في صفوف المجاهدين عام 1955، بعد عودته من فرنسا، حيث قرر الانضمام لجيش التحرير الوطني، وسنحت له فرصة الانضمام إلى القادة كريم بلقاسم وأعمر اعمران ومحندي السعيد بمنطقة بني زمنزار. وواصل المجاهد: "كان عمري 23 سنة عندما التحقت بصفوف النضال من أجل الحرية"، موضحا أنه بينما كانت فرنسا تعزز جنودها بأسلحة كبيرة وثقيلة، كان المجاهدون يتنقلون لدول الجوار لجلب الأسلحة، مشيرا إلى أنه قام بأول عمل كمسبل بجمع الأسلحة من ضواحي بني زمنزار لفائدة المجاهدين، ومع حلول عام 1956 وبعد الوشاية قرر مجاهدو المنطقة التوجه نحو الجبل بعدما شرعت فرنسا في البحث عنهم، وفي عام 29 سبتمبر 1956 قام رفقة نحو 80 مجاهدا بأول كمين باث وانش استهدفوا 5 شاحنات ومركبتين للجنود الفرنسيين، وتم إثرها استعادة أسلحتهم ومنحها للمجاهدين. وانتقل المجاهد من منطقة لأخرى في مهام مختلفة كغيره وقام بعدة كمائن إلى غاية نهاية 1956 منها ثلاثة كمائن بقرية بترونة بتيزي وزو، وفي فيفري 1957 اجتمع نحو 80 مجاهدا باث علال حيث قرروا تعيين فريقين أحدهما اتجه نحو تونس والثاني نحو المغرب الذي أدرج ضمنه المجاهد عثماني أعمر ومعه 8 عناصر من منطقة بني زمنزار منهم موح مزيان، سالم مو وعمر، معشى محمد، وغيرهم الذين انطلقوا ضمن 130 مجاهد منهم عناصر من مناطق الوطن نحو المغرب، وسط صعاب واشتباكات لاسيما بقرية "القعدة"، حيث فقدت المجموعة عددا من المجاهدين وفي اشتباك آخر فقدت المجموعة، حسب شهادة المتحدث، معشى محمد والطالب موح ارزقي اوقوداش، مؤكدا أنه رغم الجوع والتعب والإرهاق واصل المجاهدون الطريق إلى أن بلغوا الحدود المغربية. ومكثوا بأدغال الحدود الجزائرية المغربية لمدة أسبوع، قبل أن يلتحق بهم مجاهدون من ضمنهم الشهيد عبان رمضان، الذين أحضروا معهم الأسلحة لينطلقوا في طريق العودة، حيث يقول المجاهد عثماني تفطنت فرنسا لأمرهم بتقفي آثار الأقدام، وشرعت في قصف المكان ولم يستشهد أحد. بعد مغادرة الطائرات واصلوا الطريق إلى أن بلغوا منطقة تيسمسيلت بالولاية التاريخية الرابعة، مردفا أنه حينما توقفوا بإحدى القرى وصل الجنود الفرنسيون وقام سعيد موح واعمر بإطلاق النار، في حين حاول الشهيد اعمر اورباح الهروب ليتم اللحاق به ودهسه بالدبابة، اين استشهد رفقة 7 مجاهدين، وتمكن البقية من الفرار مع الأسلحة. وبعدها انتقل المجاهدون، إلى الونشريس أين أسقطوا بالضواحي مروحية واستعادوا الأسلحة، مضيفا أن المجاهد بونعامة ألقى عليهم خطاب سي محمد بوقرة الذي يطلب فيه بقاء الفريق القادم من المغرب بالولاية الرابعة، في حين الفريق القادم من تونس يتجه نحو الولاية الثالثة تاريخيا والذي استقبله العقيد اعميروش، حيث يضيف المجاهد أعمر عثماني، أنه عندما أرسل إلى المدية التقى بالمجاهد الراحل لخضر بورقعة وشارك معه في تنظيم كمائن تم خلالها إسقاط مروحيتين. ومع نهاية 1957، أرسل محمد بوقرة وعمر صديق في طلب المجاهد عثماني أعمر، حيث أسندت إليه مهمة الانتقال من الولاية الرابعة إلى الولاية الثالثة لتسليم رسالة للعقيد اعميروش، والتي بناء عليها طلب العقيد من المجاهد أحمد المولود والمجاهد اعمر محمد بجمع المال من المناطق المجاورة وتقديمه للمجاهد اعمر عثماني بغية نقله لمحمد بوقرة وعلي موح اعلي، ليعود المجاهد عثماني أدراجه نحو الولاية الرابعة وسط الكمائن والاشتباكات وتمكن من إيصال الأمانة لمحمد بوقرة الذي طلب منه نقل المال لمحمد زعموم، مشيرا إلى أنه في 1959، رافق عمر اوصديق والرائد عزالدين في طريقهما نحو تونس قبل أن يحطوا الرحال بمنزل كريم بلقاسم، ليعود بعدها "دا أعمر" إلى الولاية الرابعة والاستمرار في نشاطه بين الوزنشريس واكفادوا عبر نقل الأخبار والرسائل ورصد تحركات العدو وجمع المال ونقل الأسلحة، بين سي محمد بوقرة واعميروش، وبعد استشهادها في 1959 واصل العمل مع محمد زعموم وسي موحند اولحاج، واستمر في نشاطه إلى أن تحقق الهدف واستعادت الجزائر حريتها. ساهل يوسف (أستاذ جامعي وابن شهيد): الحرية كلفتها باهظة ويجب إعطاء قيمة أكبر للتاريخ أكد أستاذ التاريخ بجامعة مولود معمري بتيزي وزو وابن شهيد، ساهل يوسف، أن الحرية والاستقلال كلفا الشعب الجزائري ثمنا باهظا، معطيات تبقى تشهد على ما دفعه الشعب وهو يناضل من اجل استرجاع السيادة والتخلص من قيود الاستعمار الفرنسي، موضحا أن تاريخ الجزائر عظيم ويجب إعطاؤه قيمة أكبر، وقال إن ذلك يقف على عاتق المختصين و"ليس من هب ودب يخوض وينتقد ويقوم بتزييف الوقائع خلال كتابته تاريخ الجزائر وفق فكره المحدود أو نظرته الخاصة وتكذيب تصريحات الآخرين"، موضحا أنه يجب على الأستاذ والمعلم زرع في نفوس التلاميذ روح الثورة بخلق جسر بينهم وبين المجاهدين من خلال إلقاء محاضرات وعقد لقاءات تطرح محطات الثورة، صناعها، أحداثها وغيرها من النقاط". وأعقب الجامعي في سياق متصل، "إننا لسنا ضد من يبحث عن المعرفة وتوسيعها، لكن الأفضل أن يتخصص كل في مجاله وترك التاريخ لأهله"، مشيرا إلى أنه بعد مرور 30 إلى 40 سنة لن يبقى هناك مجاهدون لسرد وقائع تاريخية وأحداث ومحطات عن الثورة المظفرة، "والخوف يبدأ من هنا"، حسبه، حيث يأتي جيل يجهل رمزية تاريخ 1 نوفمبر أو 5 جويلية أو أي تاريخ آخر، وتقتصر معرفتهم على محتوى الكتب فقط، "ما يتطلب اليوم من الجامعة والمدرسة أداء مهمتها بالتنسيق مع متحف المجاهد لتيزي وزو، مع المجاهدين والمجاهدات، أرامل الشهداء وكل من شارك في الثورة وساهم فيها، عبر عقد محاضرات ولقاءات للحديث عن التاريخ، لخلق جسر تواصل بين جيلين، ليسمع جيل الاستقلال ما عايشه جيل الثورة معاناته، آلامه، حسرته على فقدان إخوانه وأصدقائه وهم يحاربون أكبر قوة عسكرية في سبيل الحرية، لقاء يعزز حب التاريخ في قلوب الشباب ليتأثروا ويحسوا بالثمن الذي دفعه شباب في عمر الزهور من أجل استقلال الجزائر"، يواصل الباحث. وعاد ساهل شريف بصفته مفتش في قطاع التربية الوطنية، الطور الثانوي، إلى ضرورة مراجعة معامل مادة التاريخ والجغرافيا ومدة تدريسها التي تبقى ضئيلة بالمؤسسات التربوية، مؤكدا على دور المدرسة في استحضار التاريخ، فتح المدارس أبوابها للجامعة، المؤرخين، المجاهدين لنقل التاريخ وإطلاعهم عليه، مستدلا بمثال يوم الطالب، الذي يجب استغلاله لتحسيس التلاميذ بمساهمة الطلبة في الثورة التحريرية، ما يزرع حب الوطن في قلوبهم ويخلق شعور الاستعداد للدفاع عنه والحفاظ عليه، موضحا أن الدروس لا تتناول بما فيه الكفاية التاريخ وأحداثه، ما يتطلب استغلال التواريخ الوطنية على غرار 5 جويلية، 1 نوفمبر،11 ديسمبر، 8 ماي، 19 مارس، 19 ماي وغيرها للغوص في عمق التاريخ بتفاصيله، عبر تنظيم مسابقات ما بين مؤسسات الأطوار الثلاثة، داعيا إلى تفادي تدريس التاريخ كقصة وإنما بطريقة تلامس مشاعر ووجدان المستمع وتؤثر فيه، ليترك آثرا في نفسيتهم ويدركوا قيمة الثورة والحرية، مقترحا إلقاء دروس أمام نصب تذكاري مخلد لصناع الثورة، بالمتاحف، إشراك التلاميذ في التكريمات المقامة على شرف المجاهدين وغيرها. س. ز