نفس تلك الصورة القاتمة والسلبية للمجتمع الجزائري التي تعودنا عليها في أعمال المخرجين المغتربين، هو ما حرص المخرج الجزائري المقيم بفرنسا طارق تقية على تقديمه بعناية في فيلمه الجديد "قبلة" أو"إن لاند"، الذي قدم في عرضه الأول بالجزائر مساء أول أمس بحضور المخرج وكوكبة من المهتمين بالفن السابع في الجزائر إلى جانب بطلي الفيلم. على مدار ساعتين ونصف التي تمثل عمر"قبلة" لم يقدم طارق تقية شيئا سوى العتمة، الضبابية، الموت الفساد، وكذا الفراغ، الملل، الظلم، الخراب، القاذورات، الحطام والتخلف ...كانعكاس للمجتمع الجزائري وواقعه، وذلك عبر شخصية سلبية من الدرجة الأولى حملها كلّ ثقل العمل من بدايته إلى آخر لقطة فيه. هذه الشخصية القاتمة الصامتة اليائسة أرادها المخرج ممثلة للشاب الجزائري بشكل عام عبر قصة تفتقر لخط سردي متسلسل وواضح وتغيب عنها عناصر القصة المعروفة، ليأتي العمل مجرد لوحات مأخوذة من هنا وهناك جمع بينها المخرج دون رابط منطقي. فبطل الفيلم الذي اختار له المخرج اسم "مالك" شخص فاشل في حياته الزوجية وفي حياته العملية عاجز عن إعالة أسرته، يستدعيه مكتب مسح أراضي بوهران ويكلفه بمهمة في الجنوب الغربي للجزائر، وهناك يلجأ إلى أحد المنازل الجاهزة حيث كان يقيم عدد من الموظفين الذين ذبحوا من طرف الإرهاب عام 1998، وبعد أن قام "مالك" بتنظيف الغرفة ومسح الدم العالق على جدرانها في لقطة مقربة دامت قرابة الخمس دقائق أوأكثر، ينطلق أخيرا في عمله فتأتيه مجموعة من الأشخاص بنظارات سوداء ومعطف طويل على شاكلة رجال المخابرات في أفلام الجوسسة لسنوات الخمسينات، ليعرف المشاهد فيما بعد أنهم من أجهزة الأمن -رغم أنه لا يرى على مدار الفيلم أي دركي أوشرطي- ويطلبون منه تقديم وثائق رسمية لسبب تواجده بالمكان للسماح له بمباشرة عمله، ورغم ذلك يواصل عمله. وفي أحد الأيام بينما يعود البطل من سهرة ليلية -أوضح فيها المخرج بعناية درجة التخلف التي يتخبط فيها هذا المجتمع المسكين- يجد في غرفته امرأة من المهاجرين الأفارقة الذين يخترقون الجنوب الجزائري على أمل الوصول إلى الشمال إذ بعد إلقاء القبض على رفاقها تفر وتلجأ إلى غرفة مالك الذي يقرر بدوره مصاحبتها إلى الحدود للعودة إلى وطنها دون مبرر- لأن المخرج لم يعر اهتماما لهذه النقطة- وينتهي العمل بأن يلدغ عقرب البطل من بعد أن يقيم علاقة حميمية مع الفتاة الافريقية. حوار الفيلم رغم ندرته جاء محملا برسائل سياسية ثقيلة كانت في أغلبها على لسان رئيس مكتب مسح الأراضي بوهران الذي أدى دوره الفنان أحمد بن عيسى، وقد أكدت تلك الرسائل في مجملها على أن الجزائر بلد يسير على غير هدى، يفتقر إلى الديمقراطية والتجديد والتغيير حيث يقول بن عيسى: "وين رانا رايحين قريب الأوربيين إيدخلو روحهم" ،"50 سنة اوهما يستناوا ..."...وغيرها، هذا إلى جانب جلسات النقاش التي كانت تخترق الصمت من طرف مجموعة من الأشخاص المجتمعين والمتحدثين دون انتظام مبدين آراءهم في ثنائية السلطة والمثقف وكذا الوضع العام للبلاد ... كما لعب المخرج بشكل خاص على وتر التصوير والإضاءة وحركات الكاميرا وزوايا التصوير والصمت، ليغرق العمل في لقطات مظلمة أونصف مضاءة وفي مشاهد غير واضحة مضببة والتي لها دلالة واضحة في السينما وهي إبراز اليأس والكآبة المخيمة والسير على غير هدى وغياب مستقبل واضح، كذلك اعتمد المخرج الايقاع البطيء على امتداد الفيلم ليبين غياب التغيير، إلى جانب الصمت الذي خيم على العمل وهو أيضا دليل عن غياب الحوار في المجتمع والفراغ والملل والضياع، وتدعيما لكل ذلك اعتمد المخرج كذلك اللقطات العامة التي تعتمد في السينما للدلالة على عدم التمييز والتيهان والشمولية، وكذا اللقطات الطويلة التي تدل على الرتابة والفراغ الذين يتخبط فيهما المجتمع، وهي اللقطات التي جعلت المشاهد يعتقد في بعض الأحيان أنه يشاهد صورا فوتوغرافية وكذا لوحات متفرقة وغير مبررة في سياق الفيلم على غرار لوحة الانتحار التي أبرزها المخرج من بعيد للدليل على شموليتها في المجتمع، ولقطة طويلة لقطار يسير ببطء على سكة تحيط بها القاذورات وسط حي سكني فقير، ولقطات الشباب المتسخ الواقف دون حراك كالتماثيل متكأ على الجدران، إلى جانب ابراز شخصيات الفيلم أجساد دون رؤوس بما فيها صورة الرئيس المعلقة بمكتب رجل الأمن وهي دليل عن عدم أهمية الشخص في الإطار العام للعمل. "قبلة" الحاصل على تمويل من صندوق الدعم "فداتيك" ووزارة الثقافة وصندوق الجنوب (الفرنسي) والحائز على جائزة في مهرجان البندقية هو تصوير لجزائر دون أمل، جزائر تسير نحو الهاوية جزائر ترفض التغيير، فهل نمول أعمالا لتدفعنا إلى الأمام أم تعيدنا إلى الخلف؟؟!