تلتفت الجزائر إلى تراثها وتاريخها الحافل لتنهل من هذه المرجعية الثقافية الأصيلة ما كان غائبا وترسّخه ضمن اتّجاهها نحو بناء مشروعها الحضاري والثقافي بدل الانفتاح والاعتماد على كلّ ما هو مستورد من الشرق والمغرب، وها هي تسعى لإحياء تراث وأفكار أبنائها ممن سبقوا زمانهم في الرؤية والاستشراف ووضع مناهج الدولة والحضارة. وبعض الأسماء عادت للواجهة في سنة 2022 لتطرح أفكارها ومشاريعها النهضوية، ومنها من كانت شاهدا على عصرها تركت الدرر والحكم النابعة من صلب المجتمع الجزائري. أحيت الجزائر، مؤخّرا، تراث الشيخ عبد الكريم المغيلي إمام إفريقيا الذي لا يزال حيا بفكره وعلمه وجامعا للقارة السمراء، التي تحتاج اليوم لآثاره في مسيرتها التنموية على جميع الأصعدة، منها إرساء النظم الإدارية والتشريعية والقضائية وتحقيق عوامل الانسجام والتعايش والاستقرار والتنمية وأيضا تنشيط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ووافق رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، في ختام أشغال ملتقى الجزائر الدولي "الإمام المغيلي"، على إنشاء "مركز الإمام المغيلي للبحوث والدراسات الإفريقية والعربية" ليكون "رافدا للتنمية في إفريقيا" واعتماد "أسبوع ثقافي إفريقي" باسم "أدرار عاصمة الثقافة الإفريقية"، تتزامن تظاهراته الثقافية والسياحية والاقتصادية مع ذكرى الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي. وبمناسبة هذا الملتقى الدولي الهام تم الكشف عن موافقة الرئيس تبون على إنجاز فيلم مطوّل عن الإمام المغيلي يؤرّخ لأمجاده وإنجازاته ومآثره، فضلا عن اعتماد جائزة الإمام المغيلي السنوية للدراسات التراثية والثقافية المشتركة، ومواصلة انعقاد الملتقى في طبعات سنوية قادمة ونشر كافة أعماله عبر كلّ الوسائل والوسائط المتاحة، مع الاعتراف بجهود رئيس الجمهورية "الفريدة في خدمة القارة الإفريقية وخدمة الزوايا والمراكز العلمية والجامعات ودعمه للبحث التاريخي للكشف عن معالم الحضارة الإسلامية وتكريمه للرموز الروحية والعلمية والاجتماعية . وكوفاء للذاكرة الثقافية للجزائر وإحياء لرموز التفكير والثقافة، استمرت خلال 2022 الخطوة العملاقة للاعتراف الرسمي وإحياء الذاكرة مع رمز آخر هو مالك بن نبي، للتصالح مع مفكّريها ضمن التغيير في "الجزائر الجديدة"، التي لا يقصى فيها أحد بل هو إعادة اعتبار للمفكّرين وأهل العلم والرأي منهم بن نبي الذي ظلّ غائبا عن وطنه وأهله. واحتضن قصر الثقافة "مالك بن نبي" في نوفمبر الماضي أشغال منتدى "مالك بن نبي ومسألة الثقافة" أشارت فيه السيدة مولوجي إلى أن "المفكّر مالك بن نبي يحفّزنا لاسترجاع رموزنا المغيبة من النسيان ونستنير بها" مضيفة أنّ "مالك بن نبي هو رجل القراءة بامتياز، فقد صاغ رؤيته للعالم وقارب الثقافة والحضارة ومشكلات المجتمع عبر قراءاته الواسعة". ومن الشخصيات التي غابت لزمن وعادت للساحة، شخصية الشاعر عبد الله بن كريو، حيث أحييت مناسبة مئوية وفاته التي تتزامن مع إحياء الذكرى 170 لمقاومة مدينة الأغواط التي تعرّض أبناؤها لإبادة جماعية وحشية من طرف الجيش الاستعماري الفرنسي، مع الإعلان عن تأسيس جمعية "التخي عبد الله بن كريو" في مسعى الحفاظ على تراثه الشعري وصونه وتدوينه كتراث وطني. ومن خلال الشعر الملحون والأغنية البدوية الصحراوية، أشير إلى هذا الزخم من تراثنا الذي ظلّ مغيّبا خاصة في وسائل الإعلام رغم ما يحمله من تاريخ ورمزية، لكنّه عاد إلى قلب العاصمة ليحتفي ويحكي أمجاد الماضي لجيل اليوم برأس مرفوع وبحرية مطلقة . بن كريو لم ينل حظه من الدراسة والظهور، يسمى شاعر الصحراء الأوّل، في حين كان الأجدر أن يلقّب بشاعر الجزائر كلّها، وأشعاره غنّتها عدّة أصوات منذ مطلع القرن ال20، كالشيخة يامنة سنة1928، والسنوسي سنة1908، والمطربة حايا الأغواطية، لتتوالى الأصوات مع خليفي أحمد ودرياسة والشيخ حمادة والعنقى وفضيلة الدزيرية وبوليفة وغيرهم، وكانت أشعاره تردّد في كلّ مناطق الوطن. وبن كريو كان أيضا شاعرا ثائرا ضدّ الاستعمار، ولد بعد عقدين من إبادة سكان الأغواط، كما كان عالما في الفقه والرياضيات واللغة والكيمياء، وعلم الفلك الذي استغله في الشعر الذي كتبه لحبيبته فاطنة الزعنونية بنت الباشاغا بن سالم. يبقى المسعى قائما لإعادة رموز الجزائر للواجهة بإرادة سياسية قوية تهدف إلى تحصين الجزائر من رياح هوجاء قد تأتي على الأخضر واليابس لتترك القحط الذي يوصل للغربة والضياع. * مريم. ن ملف القندورة القسنطينية أمام لجنة اليونسكو في مارس 2023.. "الراي" غناء شعبي جزائري سعت الجزائر، دوما، إلى حماية تراثها الثقافي، الذي يمثل الهوية الوطنية، وعدم التنازل عنه للغير، أو تشويهه أو السطو عليه، وقطع الطريق أمام كل محاولات التقليل من شأن الركائز الحضارية لبلد بحجم قارة، وبتنوع ثقافي وتراثي لا ينضب، وكثيرا ما كان "الراي" في قلب تجاذبات هوياتية، تطعن في "جزائريته"، وتنسبه لغير منبته، لكن بتسجيل الراي كغناء شعبي جزائري على قائمة التراث غير المادي للإنسانية من طرف منظمة اليونسكو، تكون الجزائر قد ربحت معركة خاضتها منذ سنين. وكشف البروفيسور، سليمان حاشي، مدير المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ لعلم الإنسان والتاريخ، رئيس الوفد الجزائري الذي قاد عملية تقديم ملف "الراي" أمام "اليونيسكو"، أنّ الملف الذي تقدّمت به الجزائر حمل جميع الأجوبة والدلائل التي تؤكّد جزائرية "الراي" بطرق علمية وأكاديمية وفق معايير محدّدة كانت محل أخذ ورد طوال أشهر، مضيفا أنّ أيّ ملف وطني يقترح للدراسة على مستوى "اليونيسكو" يخضع للدراسة المعمّقة في آجال قد تصل لعامين أو أكثر، وخلال هذه الفترة، هناك تبادل مستمر للآراء. وأكّد أنّ الجزائر هي البلد الوحيد التي تقدّمت بملف لإدراج الراي في قائمة "اليونيسكو". وأشار البروفيسور إلى أنّ العمل جارٍ على مستوى الوحدات البحثية بالمركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ لعلم الإنسان والتاريخ لتحضير ملفات وطنية تخص تعابير من التراث الثقافي غير المادي على شاكلة طبع السراوي لمنطقة الأوراس، الأشويق، المالوف وال«أياي" وكلّ مظاهر الغناء الشعبي في الجزائر. وأكد حاشي، أن ملف الزي التقليدي النسائي للشرق الجزائري، والخاص ب«القندورة" القسنطينية، بات جاهزا لاقتراح تصنيفه نهاية مارس المقبل، كزي تقليدي ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو. وأضاف أن اللباس الشرقي الجزائري يعتبر عنصرا أساسيا للهوية الوطنية، وفي التراث والثقافة القسنطينية، كما أنه مسجل في الجرد الوطني كتراث ثقافي غير مادي، الأمر الذي جعل الوزارة تعمل جاهدة لتصنيفه من قبل اليونسكو. ومع إدراج فن الراي في قائمة التراث العالمي غير المادي للإنسانية من منظمة التربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو)، تكون الجزائر قد رفعت إلى تسعةٍ، عددَ الممتلكات الثقافية المصنفة على هذه القائمة المرموقة. أما أول ملكية ثقافية أدرجتها الجزائر، فتتمثل في أهليل قورارة، والأشعار الغنائية المصحوبة بالرقص، التي تتم خلال الاحتفالات الجماعية والأعياد الدينية في منطقة شمال أدرار، والتي اقترحها الباحث رشيد بليل في سنة 2008. * نوال جاوت