ألقى الدكتور مخلوف بوكروح مؤخرا، محاضرة "60 سنة مهام وأعباء" في إحياء ذكرى تأميم وتأسيس المسرح الوطني الجزائري، في الثامن جانفي 1963. تناول فيها تفاصيل مهمة من مسيرة هذه المؤسسة العريقة، وتجربتها الرائدة في العمل الفني والثقافي وغيره. كما اقترح بالمناسبة، بعض الخطوات التي من شأنها إعادة بعث ما كان من أمجاد وروائع. أشار المحاضر إلى أن تأسيس المسرح الوطني في 1963 (تأميمه)، كان بفضل جهود جيل الرواد، مؤكدا أن ذات السنة تأسس فيها، أيضا، المسرح القومي البريطاني، داعيا إلى تبني رؤية جديدة تحدد الرسالة التي يريد مسرحنا الوطني تقديمها، وما هي السبل والمهام وكذا الأهداف التي يجب أن تتحقق. وأشاد المحاضر بجيل الرواد الذي حقق بجدارة، هذه الفكرة، مؤكدا أنه بحث في المصادر ولم يجد أي دراسة عندنا تناولت "مفهوم المسرح الوطني"(ماهيته). وهنا شرح أن لكل مسرح وطني خصوصية بلده؛ فمثلا الأنظمة الفيدرالية لا مسرح وطني فيها، ومنها الولاياتالمتحدة؛ فالمسرح من مهام الفيدراليات كل على حدى؛ أي أن المسرح يتبع النظام السياسي لبلده. وهنا ذكر أن الولاياتالمتحدة في عهد روزفلت، أسست المسرح الإقليمي ذا البعد الوطني، لكنه لم يعمّر طويلا، وأوقفه الكونغرس؛ بحجة أنه يروّج للأفكار الشيوعية. والمسرح البريطاني حسب المحاضر هو، في الأساس، عبارة عن متحف ومكتبة حية، تحفظ التراث الوطني والإنساني. ويمتاز باستقلالية التسيير، بينما في أنظمة أخرى للمركزية فيها الوجود الحاسم، تعتمد على البعد الوطني؛ من ذلك مثلا، فرنسا؛ حيث تأسست اللجنة الفرنسية للمسارح الوطنية منذ 1640، ثم المسرح الوطني الشعبي في 1920. وفي العالم الثالث انتهج المسرح الوطني في بلدانها، مهمة الدفاع عن الهوية، والخروج عن الهيمنة الاستعمارية. أما في العالم العربي فتأسست المسارح الوطنية مطلع الستينيات، وأغلبها كان أقل حجما من المسرح الجزائري. وعن المسرح الوطني الجزائري الذي تم تأميمه في 63 وبالتالي تأسيس مسرح الجزائر المستقلة، فاعتمد على تنظيم هذه التركة، مع احتواء الممارسة السابقة بكل تجاربها حسب المرسوم الصادر في 8 جانفي 1963، وبالتالي الإقرار بوجود مسرح قائم. والمادة الأولى من هذا المرسوم تتضمن المرفق العام والخدمة العمومية كعنصر هام وأساسي في الثقافة والمسرح، علما أن المسرح قبل 63 كان تحت إشراف مديرية الشؤون الثقافية بوزارة التربية الوطنية (لم تكن هناك وزارة للثقافة)، وبالتالي كان المسرح أول مؤسسة ثقافية تأسست بعد الاستقلال. وفي المادة 3 تم تناول مهمة إنشاء فرقة فنية. كما كان للمركز الوطني للمسرح الجزائري حيز كبير في هذا النص القانوني، مع تحديد مهامه، وذكر مراكز الفن الدرامي، وأخرى لفن الفلكلور، ثم المهرجانات وغيرها، علما أن هذا المركز ولأسباب مجهولة، لم ير النور، حسب المحاضر. وفي ما يتعلق بالهياكل والموارد البشرية وعمال المصالح التقنية، فيتبعون الوظيف العمومي. أما الفنانون فيخضعون لنظام العقود، وهو ما كان حتى سنة 1976، وما تَسبب في بعض المشاكل.. القانون الثاني الصادر سنة 1970 يتحدث عن إعادة تنظيم هذه المؤسسة العمومية، وأنها ذات طابع صناعي وتجاري، وتحديد مهامها، لكن ذلك وجد صعوبة في رسم الحدود؛ لأن المسرح ليس مؤسسة ذات خصوصية تجارية اقتصادية محضة. وبدا المحاضر بوكروح معجبا باللائحة التي رافقت قانون 63، التي تضمنت ملامح وأفكار وأهداف المسرح الوطني، حررها أناس ذوو رؤية بعيدة، وكانت بمثابة نص مكمل وليس إلزاميا بقوة القانون، بل كان بمثابة المرافق والخلفية التي يتكئ عليها المسرح الوطني. ومن المهام التي سعى إلى تحقيقها المسرح الوطني من خلال هذا القانون، إنشاء مركز وطني للفن الدرامي بالشلف، مختص في تكوين المنشطين والمدربين، وكذا مركز آخر لدراسة الفلكلور، وتنظيم مسابقات في الفن الدرامي، مع اعتماد فتح نقاشات بعد العروض، وتحديد سعر التذاكر، ومنع الإكراميات ومظاهر البريستيج في القاعة، وأن لا يتجاوز الطاقم الإداري 30 ٪ من كتلة العمال. واعتمد المسرح، أيضا، على جلب الجمهور؛ من خلال عدم الاكتفاء، فقط، بالعروض المسرحية. ودعا المحاضر إلى تخصيص فترات وعروض لفنون أخرى؛ منها الرقص، والغناء وغيرهما. كما دعا إلى العودة لحال المسارح البلدية، وكيف تم التعامل معها أثاء التأميم؛ من خلال البحث والدراسة، علما أن مداخيلها ومداخيل المسرح الوطني كانت ضخمة حينها. وفي الأخير قدّم المحاضر دعوة للقائمين على المسرح الوطني، لتقييم هذه المؤسسة سنويا، وتحديد مواقع الضعف والقوة، وأن يكون هذا التقويم السنوي من طقوس المسرح، وهو حسبه لا يعني المحاسبة، بل تقويما معمّقا ماديا ومعنويا، ونقدا ذاتيا للذات. وكانت المناقشة التي أعقبت المحاضرة ثرية جدا، تناول فيها الحضور مسألة التعريف بمن سبقوا من مديرين، وتقنيين وغيرهم ممن تركوا بصمتهم على المسرح الوطني، وكذا الوقوف عند أهم الجوائز التي تم حصدها منذ الاستقلال، مع عرض ذخيرة المسرح من عروض ونصوص وألبسة وغيرها، والعودة للتكوين كما في السابق؛ أي أن يكون للمسرح مدارس للتكوين مثلما تفعل الفرق الرياضية. وتم التطرق للمسارح الجهوية التي ظل مفهومها ودورها مبهما، وبالتالي ضرورة إقحامها في محيطها الإقليمي.