كثيرا ما تجف منابع الكتابة وتتوارى الأفكار كما تتوارى الأعشاب في الأسباخ المالحة، أو كما الأشباح في العتمة، نبقى نبحث عن بصيص كلمة تحت إلحاح وإصرار قلم، تنفجر الأفكار، ينبع الضوء والحبر والنخيل، تبرز من الرمل صخور وكأنما الأرض تشققت من حضارات أسطورية، القلاع والحصون والثقافة حيث تطل من وراء الأزمنة كما التاريخ بنفس حضاري عميق يبدع نحت الحياة ويكون في مستوى عنفوان الطبيعة التي لا تلين. من يزور الصحراء يرهبه الامتداد ويحتويه الفضاء بكل ألوان الطيف، ورغم محيطات الرمال وثوران السكون ينتصر الفن للحياة وينبض العشب تحت قامات النخيل ويعزف الماء الاستمرار والبقاء، فيندهش الزائر للتجديد الدائم في سارب بالليل أو مستيقظ مع العصافير. تأخذك الفتنة حينما تتجول في قصور أدرار وتباغتك الأسئلة من أي ناحية يجري الزمن وكيف يكون الظل من ضوابط التوقيت؟ ومن أين يتدفق الماء من تحت الرمال دون أن ترتشفه شفاه الشمس أو تحتسيه الكثبان العطشى؟ الساحة الحمراء الكبيرة والجدران الترابية بلونها الطيني تصارع الإسمنت والعصر وتصد حمارة الصيف ببساطة دون الالتجاء إلى العصر. لكن فضاء أدرار يبدد مخاوف الزمن ويرسم ذلك البياض الناصع، وتلك الأصوات المدوية بالقرآن، وذلك المد الأخضر، فتنجلي كل الظنون وينتصر الحرف حين يكشف عن خزائن المخطوطات. في كل قصر قصة ومحبرة ولوح شيخ لم يقعده الرحيل فظل يواصل زرع الحروف وتصفية القلوب والأفكار، وأنت تحط رحالك بين قصور أدرار وزواياها يقتحم السؤال كل فجاج التاريخ وينتصب كالمارد هل استضفتني لأريك الأعاجيب؟ من أدرار تدعوك بشار التي يسكنها الزمن منذ مولده الأول، تدعوك لتقول لك إن أول مصباح كهربائي أضاء على هذه القارة من هنا، من القنادسة حيث قاطرة الفحم ما تزال تشكل ذلك المتحف الذي يثير الدهشة. عندما تدخل القنادسة والقصر القديم أو تعبر منها وادي الساورة الكبير في اتجاه بني عباس سالكا فجوات تاغيت، هناك فقط تأتيك الأسطورة ويستوقفك التاريخ بسلاطينه ويسترجع معك جبروت السلطان وأطماع اليهود الذين حاولوا اختراق القانون وإنشاء عصابة تصادر الحياة وتستولي على حركات القوافل العابرة للقارة حيث الملح والذهب والماء. من هناك في ذلك الجرف الذي يمتد 18 كلم، يحذرك الدليل من مغبة المفاجأة بعودة السلطان الأكحل الأسطوري والذي قهرته امرأة.تاغيت الحجر الأرجواني والماء والنخيل، يحيلك على الكهوف وعلى الرسومات القديمة وعلى الصخور الإردوازية ويبعثرك في كل الجهات المجاورة، لتلتقط مشاهد الجمال المتوالدة مع الأحاجي والقصص. وأنت تقترب من مدينة بني عباس يتبادر إليك عرس المولد الذي يفد إليه الناس من كل مكان، تصطف المهاري من حولك على أبواب المدينة متصاعدة مع بساتين النخيل والعنب والتين والرمان. ويختطفك المشهد إلى ساحة المدينة حيث تنتصب منصة الاحتفال وتمتلئ المرتفعات المطلة بالنسوة والرجال، وتخرجك من مشهدك هذه طلقات البارود في مشاهد الحرب والانتصارات. مدينة المولد تبعثك من جديد إلى الصحراء، تدفعك بشغف لتكشف أول كائنات مائية في الكون، أسماك متحجرة بذات اللون والحجم، أنت تسير على بحر جاف تكشف لك بعض صخوره عن فحواه. في الصحراء قصص أخرى، قصص للقصور وللقبور، قصص للنخيل والماء. بعيدا عن أدرار وبشار وأنت صاعد أو عائد من هناك إلى عاصمة الزيانيين التي مازالت تحتفظ بأجندة الملوك والأولياء والعلماء، تأخذك النعامة إلى عين الصفراء وعسلة وصفيصفة وتدعوك إلى مآدبها الموسمية وأعراسها الخريفية حيث الفروسية والبارود والأسواق، والجزائر بكل أبعادها الحضارية تدعوك إلى قصورها القديمة وتعرض عليك أشياءها الجميلة في التعايش وإصلاح ذات البين وتسعدك بجانب من أعراس الفروسية والشعر وتحكى لك قصصها حول سيدي أحمد المجدوب وسلاطين الجن وجبال الملح الملونة. وحتى لا أطيل عليك أكثر، فإن المعمار والثقافة والحياة، الفقارة والقصور وخزائن المخطوطات والزوايا وبساتين النخيل وسحائب الفرسان والبارود يشكلون الصحراء، الأولياء والعلماء يروون القصص، سيدي أحمد المغيلي، سيدي أحمد المجدوب، سيدي محمد بلكبير، قصة المصباح الكهربائي، وجبل عنتر وأعراس البارود والمولد، والقصور التي هي مدن محصنة كما هي القلاع، هي ذي الصحراء التي ينبغي أن تدرج ككتاب آخر من كتب ''تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية''.