تنام منطقة القبائل على إرث ثوري كبير وتاريخ مشرف لأبطال وأسماء صنعت الثورة ومعالم أثرية ثورية وشواهد تكاد تنطق وتحكي فصلا من فصول ثورتنا المجيدة منها ما هو شامخ في السماء ومنها ما لا يزال مدفونا تحت الأرض إلى جانب أسماء من سقطوا فداء اللوطن..فالكازمات تاريخ مؤكد لثورتنا غير أن الاستقلال لم يحفظ لهذا الشاهد حقه على الرغم من دورها الجوهري في صناعة الثورة لتبقى حبيسة النسيان بعيدة عن الذاكرة الشخصية والجماعية وهي التي تحكي لوحدها بطولات الرجال والنساء. ...في ليلة الفاتح من نوفمبر من سنة 1954 شن ما يقارب 3000 مجاهد ثلاثين هجوما في معظم أنحاء الوطن، على المراكز الحساسة للسلطات الاستعمارية. وقد توزعت العمليات على معظم أنحاء التراب الوطني حتى لايمكن قمعها كما حدث لثورات القرن التاسع عشر بسبب تركزها في جهات محدودة. وعشية اندلاع الثورة تم الإعداد لكل التفاصيل الخاصة بالثورة فحفرت الخنادق وبنيت الكازمات لإيواء المجاهدين و''المسبلين''.. وكانت الانطلاقة نحو استعادة الاستقلال وإعادة بناء الدولة الجزائرية. ولا تختزل ثورة التحرير المباركة في قائمة من أسماء قليلة من الشهداء لكنها تطول وتمتد إلى أزيد من مليون ونصف المليون شهيد صنعوا وقائع وبطولات تتداولها الأجيال عبر حكايا الآباء والأجداد ممن عايشوا الثورة وكتب التاريخ التي دونت أمجاد وبطولات رجالات الثورة إلى جانب شواهد تاريخية منها ما هو ظاهر للعيان ومنها ما لايزال مدفونا تحت الأرض كما هو الحال بالنسبة ل''الكازمات'' التابعة لجيش التحرير والتي لا تزال تشهد على العبقرية الثورية..فهي متاحف تحت الأرض وقبور منسية لشهداء الثورة. وتعد الكازمات إحدى الآليات الفاعلة في ثورة التحرير المباركة وهي التي أدت دورا استراتيجيا في حماية المجاهدين والثوار ولا تخلو ولاية تاريخية من بقايا كازمات صامدة أو مردومة أو مغارات وكهوف للمجاهدين ولعل منطقة القبائل لا تزال تحتضن هذه الملاجئ التي تروي قصصا وحكايا لأبطال وقادة مروا من هناك غير ان مصير هذه الأماكن ظل حبيس النسيان والإهمال في وقت كان من المفروض ان تتحول فيه إلى متاحف تاريخية لتحكي للأجيال مآثر المجاهدين والشهداء. وتنتشر بدائرة تيقزيرت (تيزي وزو) أعداد كبيرة من الكازمات التابعة لجيش التحرير الوطني قدرتها مديرية المجاهدين بالعشرات منها ما كان يستغل كمخابئ وملاجئ تأوي الثوار والمجاهدين ومراكز للتخطيط والانطلاق، ومنها ما كان يستغل في شكل عيادات ومصحات لإسعاف المصابين والجرحى من المجاهدين كما هو الحال بالنسبة لبلدية افليسن بأعالي تيقزيرت والتي تنام على مخزون تاريخي تحسد عليه غير أنه ضل حبيس ملكيات خاصة لعائلات احتفظت لنفسها بمخابئ وكازمات هي في الحقيقة ملك جماعي وارث وجب ترميمه والمحافظة عليه باعتباره شواهد مادية على حرب التحرير وهي التي لا تزال أنفاس المجاهدين والشهداء وأحاديثهم فيما بينهم تطبق على المكان وتجوب أرجاءه. ''افليسن'' متحف العيادات تعد قرى ومداشر بلدية افليسن الواقعة على بعد 80 كلم شرق ولاية تيزي وزو إحدى أهم الأماكن الإستراتيجية التي اتخذ منها جيش التحرير منطلقا لأكبر العمليات الفدائية التي شهدتها المنطقة ..وعلى الرغم من استهدافها من قبل قوات المستعمر الفرنسي الذي تجند لضرب كل المحاولات الفدائية للمجاهدين أو المسبلين إلا أنه عجز عن الوصول إلى مخابئ المجاهدين والكازمات التي كانت تأويهم. وقد ظلت العديد من الكازمات مجهولة حتى لدى أبناء القرية كما يؤكده عمي عمر الذي ينام على اكبر كازمة ببلدية افليسن وتحديدا بقرية ''امسونن'' والتي كانت تؤدي دور العيادة أو المصحة بحيث ينقل إليها الجرحى من الجنود والمجاهدين منهم قادة كبار من الولاية التاريخية الثالثة (منطقة القبائل) ..ويجهل الكثيرون حتى ممن عالجوا بالكازمة موقعها بالتحديد نظرا إلى تموقعها بقلب القرية ووسط مجمع سكاني كبير. ويروي عمي عمر احد المجاهدين المعروفين بالمنطقة انه وبأمر من المجاهد بن منصور تم بداية سنة 1956 بناء ثلاث كازمات بمنطقة افليسن بأعالي تيقزيرت مخصصة فقط للإسعافات الأولية إحداها تلك التي يرقد عليها عمي عمر بقرية امسونن والتي بنى فوقها بيته فيما تتواجد الأخرى بكل من قرية أث رهونة وقرية بوقلال واللتين تم تدميرهما من قبل قوات الاستعمار بعد قنبلة مكثفة. وأثناء الثورة المباركة كان يجهل كل أهل الدشرة مكان تواجد الكازمة باستثناء خمسة من الناس اثنان منهم ممن تكفلوا ببنائها وهما تيغرمت السعيد وغوبريد مزيان بالإضافة إلى الممرض الذي كان يتكفل بإسعاف الجرحى المرحوم مغزي محمد اوقاسي..وقد تعمد القادة إخفاء مواقع الكازمات يضيف عمي عمر حتى على المجاهدين وذلك خوفا من الكشف عنها والإفشاء بها لدى وقوعهم تحت قبضة جنود الاستعمار أو تحت طائلة التعذيب. وكان الممرض المجاهد محمد اوقاسي قد وقع يوما بين ايدى جنود المستعمر حيث أذاقوه أنواع العذاب وطالبوه بالكشف عن المكان الذي يسعف فيه جرحاه من المجاهدين غير انه وعلى الرغم من الآلام والأوجاع التي كان يعاني منها استطاع ان يضلل المستعمر بأن دلهم على منزل عاد لأحد المجاهدين المطلوبين والقريب من مكان الكازمة ففجروه دون تردد ودون أن يؤثر ذلك على الكازمة. عميروش يأمر بردمها والتاريخ يتجاهلها والى جانب الكازمات التي خصصت للإسعاف فقد انتشرت بالمنطقة ثلاث كازمات أخرى اكبر من حيث المساحة وكانت بمثابة المأوى لمجاهدي المنطقة وجنود جيش التحرير وتتواجد بكل من قرية أث جنات، افليسن وتالا أومالو ليصل تعداد الكازمات ببلدية افليسن لوحدها إلى ست كازمات جاء أمر بردمها من قبل القائد البطل بالناحية العسكرية الثالثة العقيد عميروش بعد ان وصلته معلومات دقيقة عن هجوم مرتقب لجيوش الاحتلال الذي كان يحضر للقيام بمداهمة ومسح كامل لمنطقة القبائل التي ترسخ فيها العمل الجهادي بشكل كبير. وفي رسالة مشفرة مفادها ''اردموا الخم..الجراد قادم'' فهم سكان المنطقة ان قادة الثورة طالبوهم بردم جميع الكازمات الموجودة بالبيوت والتي أمروا سابقا ببنائها خوفا عليهم من اكتشافها من قبل العدو الذي لن يرحمهم في حال اكتشافه لها.. وما هي إلا أيام حتى حصل الإنزال الكبير تحت إمرة لاكوست والذي توقع له العقيد عميروش ونبه إليه فكان المسح الكبير الذي جند له أزيد من 36 ألف جندي فرنس عسكروا بمنطقة افليسن، تيقزيرت وازفون فكانت معارك وبطولات. وبالفعل تمت الاستجابة لأوامر القائد بداية سنة 1959فكان ان ردمت جميع المخابئ والكازمات المنتشرة على مستوى منطقة افليسن في ظرف زمني لم يتعدى ال48 ساعة بحسب التعليمات فيما دمرت بعدها مواقع أخرى ومسحت بشكل كلي بفعل القصف المكثف لطائرات العدو على بعض المواقع التي انهارت عن آخرها في حين بقيت كازمة عمي عمر شامخة رغم مرور سنوات على ردمها بحيث يؤكد عمي عمر انه تعمد سد مدخل الكازمة بصفيحة حديدية كبيرة ونشر عدد من الحجارة الكبيرة من فوقها تحسبا لأوامر أخرى تقضي بإعادة فتحها. وعلى الرغم من تعرض قرى ومداشر بلدية افليسن إلى هجمات متكررة لجنود الاستعمار الذين لم يكفوا يوما عن محاصرتها وتفتيشها لإدراكهم للدور الذي تلعبه هذه المنطقة بالذات التي تتميز بطبيعة جغرافية صعبة مما جعلها تحتل موقعا استراتيجيا وتشكيلها لملتقى طرق جميع قوافل المجاهدين القادمة من شرق الجزائر متجهة نحو الغرب أو العكس. ويضيف عمي عمر أنه على الرغم من تعرض قرية امسونن إلى بطش كبير من قبل العدو وهي التي فقدت كل شبابها ورجالها في قائمة ضمت أزيد من 100شهيد بالإضافة إلى 1000رأس من الغنم ونحو500 بقرة كانت هي رأسمال السكان وزادهم.. إلا ان ذلك لم يمكنهم من الولوج إلى الموروث الذي أصبح اليوم مفخرة سكان القرية الذين اكتشفوا بعد الاستقلال وسمعوا بسر الكازمات غير أنهم لم يصلوا إليها لأنها تحولت إلى ملكية خاصة لعمي عمر الذي حاول عقب الثورة إخراج الكازمة من سريتها والتعريف بها باعتبارها شاهد على الثورة غير انه سرعان ما تراجع عن فكرته. بقايا دواء، ضمادات ورطوبة معبقة بالذكريات لا تزال الأعمدة والأرضية التي بنيت بها كازمة عمي عمر شامخة وشاهدة رغم مرور سنوات طوال على إغلاق المكان الذي تنفلت من شقوقه نسمات باردة ورطوبة عالية تحمل معها ذكريات تلك الأيام العصيبة التي عاناها المجاهدون والشهداء ..ورغم مرور أزيد من نصف قرن على غلق المكان إلا ان بقايا زجاجات الدواء التي كان يستعملها الممرض والمسعف الوحيد بالمنطقة المجاهد مغزي محمد اوقاسي إلى جانب كمية من الضمادات وبقايا بعض الملابس والبدلات العسكرية للجنود والمجاهدين بقيت بمكانها منذ ساعة وصول نداء عميروش. وينتابك شعور بالخوف والرهبة وأنت تدخل كازمة عمي عمر المعبقة بروائح زمن الثورة التي حبست بالمكان الذي يسع لأزيد من 30 شخصا والمليء بالرطوبة فيخيل لك سماع أصوات المجاهدين وهمساتهم فيما بينهم وترى أطيافهم ممدة فوق الأسرة الخشبية التي لا تزال تحتفظ بعرقهم ودمائهم فيما يتحول صفير الرياح المتسللة من الشقوق إلى أنين وصراخ أولئك المصابين والمسعفين بالمكان إبان الثورة في موقف يبعث على الخشوع والوقوف إجلالا لمن مروا بالمكان وللمكان في حد ذاته. وقد أدت الكازمة دورا هاما أثناء معركة ''احنوشن'' سنة1958 التي سقط فيها 80 شهيدا في يوم واحد إلى جانب أزيد من 100 جريح تم تحويلهم نحو الكازمات المهيأة للإسعاف كل حسب خطورة إصابته فمنهم من قضوا نحبههم بداخل الكازمات متأثرين بجروحهم ومنهم من خرجوا منها سالمين معافين بعد أسابيع من العلاج ...وبحسب مجاهدي المنطقة فإن النسوة والعائلات المقيمة بالقرب من الملاجئ والكازمات غالبا ما كانت تقيم الأعراس والولائم حتى تخفي أنين الجرحى وتوجعاتهم خوفا من اكتشافها من قبل قوات العدو التي كانت تعسكر بالجوار ولا تتوقف عن القيام بدوريات للتجسس والاستخبار. ولا تخبئ كازمة عمي عمر ذكريات المجاهدين فقط بل تتعداها إلى أنواع من الأسلحة والذخيرة التي أكلها الصدأ غير ان دفئ الذكريات أبقاها لتحكي لجيل الاستقلال نضال أبناء المنطقة التي فدت الجزائر بقائمة من الشهداء لم يسعهم النصب الذي شيد بمنطقة علي عمر لتخليد أسمائهم. الكازمات من يسترجعها ومن يحميها تعد كازمة عمي عمر نموذجا لعشرات الكازمات التي ظلت مخبأة وحبيسة في ملكيات لعائلات في شكل أقبية منسية تحت الأرض يتنافس عليها الأفراد، وما زاد في الأمر سوء هو تجاهل السلطات المحلية وعلى رأسها مديرية المجاهدين وقسمة المجاهدين بالولاية لمصير هذه الكازمات على الرغم من علمهم بها وبمكان تواجدها وكذا إمكانية استرجاعها وإعادة تهيئتها في شكل متاحف يقف عندها أبناء المنطقة ''للذكرى..لعل الذكرى تنفع المؤمنين''.