تعد مرحلة التقاعد بمثابة الهاجس الذي يخاف أغلب الرجال بلوغه، خاصة تلك الفئة المحبة للعمل والمتعودة على العطاء ولأن المجتمع الجزائري لا ينطوي على بعض المرافق التي تساعد المتقاعدين على شغل وقتهم، نجد أن أغلبهم يقصدون المقاهي أو المساجد أو الحدائق العمومية لقتل الوقت كما يقال، لأن الوقت بالنسبة لهم يصبح شغلهم الشاغل في ظل الفراغ الذي يعيشونه، غير أن بعضهم رفضوا الاستسلام وفكروا في استثمار وقت فراغهم حتى يستمروا في العطاء والسيد عبد الرحمان بن طالب البالغ من العمر 26 سنة خير نموذج يستحق أن يقتدى به. يأتي عمي عبد الرحمان يوميا من برج الكيفان لممارسة مهنة قلة قليلة من الناس يعرفون بوجودها، وهي كراء الكراسي لمن يرغب في الجلوس بحديقة بور سعيد، بدأ يمارس هذه المهنة منذ سنتين تقريبا بعدما تعرف على سعيد الذي مارسها لأكثر من 02 سنة، إلا أن سوء حالته الصحية حال دون إمكانية مواصلة المشوار. ''المساء'' اقتربت من عبد الرحمان، وحول الدافع الى ممارسة هذه المهنة قال ''بعدما تمت إحالتي على التقاعد فكرت كثيرا في ضرورة البحث عن شيء ما أشغل به وقت فراغي، خاصة أني شخص محب للعمل لأنه يبعث في نفسي الشعور بالسعادة ويبعد عني الأمراض ويجنبني التفكير في كيفية قضاء وقت الفراغ'' ويستطرد قائلا ''لا أعتبر كراء الكراسي مهنة، بل هي بالنسبة لي بمثابة الهواية التي أشغل بها وقتي، وهي تبدو للوهلة الأولى بسيطة، إلا أنها صعبة وتتطلب ممن يمارسها أن يكون يقضا وأن تظل عيونه موزعة على جميع الكراسي حتى لا تتعرض للسرقة أو للتحطيم من بعض الشباب الذين يعتقدون بعد كرائهم للكرسي أنهم أصحبوا مالكين لها يحق لهم العبث بها''. وحول الفئات التي تقصد المكان للجلوس بالحديقة قال ''جميع الشرائح العمرية تقصد المكان، حتى النساء والفتيات، فالفتيات العاملات مثلا يقصدن الحديقة من أجل تناول وجبة الإفطار أو للدردشة مع الصديقات، بينما تميل بعض النسوة المتقدمات في السن إلى دخول الحديقة لأخذ قسط من الراحة إلا أن الفئة الكبيرة التي تزور المكان باستمرار وتظل لفترة طويلة تمتد إلى آخر النهار هم المتقاعدون، خاصة في الأيام المشمسة حيث يأتون باكرا وبأيديهم الجريدة فيمضون معظم وقتهم في قراءتها أو تبادل أطراف الحديث''. من جهة أخرى أوضح لنا عبد الرحمان أن نشاطه يقل أيام الشتاء حيث لا يتعدى الطلب ال05 كرسيا، بينما تنفذ منه الكراسي أيام الصيف وفي شهر رمضان المعظم، حيث يؤمن لقاصدي الحديقة أكثر من 051 كرسيا ويضطر في بعض الأحيان الى جلب عدد إضافي لتغطية الطلب كما يزداد الاقبال على الحديقة أيام العطل الأسبوعية حيث يأتي الأولياء رفقة أولادهم للعب. وألف عبد الرحمان هذه المهنة وتعود الناس عليه حيث يتوجه زوار الحديقة من الراغبين في الجلوس بها إليه مباشرة طالبين الكراسي ويدفعون مقابل ذلك 01 دنانير، ويتعجب بعض زوار الحديقة عندما يتوجه إليهم ويطلب أن يدفعوا له مقابل الجلوس على كرسي بل ويرفض بعضهم الدفع ويفضلون الجلوس على الأرضية حتى لا يدفعوا المقابل، ولمن لا يعرف هذه المهنة يقول عبد الرحمان إنها مهنة قديمة كانت موجودة منذ الحقبة الاستعمارية، حيث كانت حديقة بور سعيد معروفة برجل إسباني يقوم بكراء الحمير للأطفال الذين يأتون للعب بها، كما كان يتم كراء الكراسي الخشبية وقتها لمن يرغب في الجلوس أو لممارسة هواية ما في الطبيعة كالرسم أو العزف على بعض الآلات الموسيقية، إذ كانت الحديقة فيما مضى مكانا نظيفا، نباتاته مخضرة ونخيله كثيرة، بينما اليوم - يقول - ''نلاحظ أن الحديقة رغم جمالها تحولت إلى وكر للمتسكعين والمختلين والمتشردين الذين يعتدون على من يجلس في الحديقة خاصة النساء، ولهذا أخذت على عاتقي مهمة توفير الأمن لكل من يجلس على كرسيي بالحديقة خاصة إن كنّ نساء''.. يصمت المتحدث وعلامات الأسف ظاهرة على وجهه ثم يضيف ''شتان بين أيام زمان حيث كنا نقوم بكراء الكراسي الخشبية ب05 دينارا وكان المكان هادئا والحديقة آمنة، وكان الأشخاص يقصدون الحديقة رفقة عائلاتهم لقضاء بعض السويعات بالهواء الطلق، خاصة أولائك الذين يأتون للعاصمة بالقطار، فيقصدون الحديقة للراحة والتمتع بجمال العاصمة والتقاط الصور التذكارية، أما اليوم وعلى الرغم من أننا نعمل بموجب رخصة من البلدية إلا أن الحديقة لا يوجد بها أدنى سبل الأمن، ناهيك عن تلوث الحديقة وكثرة المشردين بها، الأمر الذي دفع بالكثيرين الى رفض الجلوس بها''. تركنا عبد الرحمان وكله حيوية ونشاط يتجول في الحديقة بحثا عن الأشخاص الذين اخذوا الكراسي من دون دفع الثمن، وكان آخر كلامه نصيحة رغب في إيصالها إلى كل من أحيل على التقاعد ''المتقاعدون ثروة بشرية وطاقة كامنة قادرة على العطاء، حبذا لو يتم إنشاء بعض المرافق الخاصة بهم وعلى المتقاعدين أيضا أن يفكروا في القيام ببعض المهن أو الحرف حتى لا يقتلهم الفراغ''.