وأنت تطوف بأقطار الشعر الشعبي تستوقفك المشاهد النضالية، لتخبرك عن قصة تظن أنها من نسج قصاص محترف في رواية أحاجي الشتاء البارد وسمر الصيف، تأخذك ارتعاشة البحر وهي تستقطر بعض المصابيح الزيتية المتلصصة على وجوه الصيادين العائدين الى المرفأ أو وجوها لمجاهدي البحر وقد فقدت بعض ملامحها من أثر شظية مدفع، أو طعنه بسيف أو رشقة سهم، هي ذي القصيدة الشعبية تعيد تشكيل البهجة في موسم الانتصارات البحرية لتكون مشهدا للتاريخ وانتصارا للكلمة وصوتا للمقاومة. ما تزال القصيدة الشعبية تسجل لنا ملاحم البحر، بل ما يزال الشاعر الشعبي يوظف مصطلحات المقاومة البحرية ويشتغل على لفظة القرصان والأحواز ومدن الضفة الشمالية »قرصاني يغنم«، وينسج على منوال القدامى أمثال مصطفى بن ابراهيم وبن خلوف والذين سجلوا لملاحم البحر وصمود المدن أمام الغزاة. وأنت تقرأ القصيدة الشعبية تشعر أنك تلتقط مشهدا من مشاهد معركة بحرية، أسطول أجنبي يهاجم البهجة لكن المدفعية ورياس البحر يصدون الهجوم بشجاعة، والأسطول الجزائري الحائم على السواحل يرد كيد المعتدين ويدمر سفنهم. الحروب البحرية تدخل في سجل المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي للضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط، والجزائر تختار هذه السنة ممثلة في مدينتها العريقة والحضارية تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية عليها - الجزائر - أن لا تنسى منجزات البحر والحروب الطاحنة التي دارت رحاها على شواطئنا من غزاة إسبان وفرنسيس والغرب الصليبي بكل تطرفه ووحشيته، التي ظهرت في محاكم التفتيش ثم تواصلت لتعقب المسلمين الفارين بدينهم المهاجرين إلى الساحل الجنوبي، الشعراء سجلوا الملاحم، وعلى المهتمين إحياء هذه البطولات سواء من خلال التصدي للغزاة أو لعملية الإجلاء التي كانت تقوم بها بحريتنا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح بشرية. تلمسان عاصمة أيضا للملاحم التي أدارها البحر بجدارة وعاصمة ايضا للأندلسيين الذين فروا من بطش النصارى، وجاءوا بالحضارة والفنون والحرف المختلفة وليضيفوا لمسات أندلسية أخرى على عاصمة الزيانيين من بوابة البحر دخلت القصيدة المقاومة، بل دخلت المعركة وبدأت تكتب لنضالات البحر كلما تعرضت الجزائر الى هجوم أو كلما انطلق الأسطول الجزائري للغارة والصعود في أعالي البحار لدحر المعتدين، وليس من الغريب أن تسجل القصيدة هذه المفاخر حين يقول الشاعر. ''دايم تخل في بلادهم بهيات القرانصه عسكرها معلوم عندهم يزضم بسيوف اخشانه جاوا بنين الروم يحسب بلد الجير بقات سايبه اعياوا الكفار يكذب بالمدافع يرميوا بونبه ما لحق فيما تعذبوا وامشات الخزيان خايبه والله يالو كان قربوا لصاروا حيطان رايبه لكن قوم الروم خايفه شافوا الموت عيانا ما صابوا للصلح سعفه وامشاوا في اهانا'' هذا المقطع من القصيدة الملحمة البحرية، يؤكد على قدرة المقاومة في دحر الأعداء وتسفيه أحلامهم وتحطيم طموحاتهم في النيل من الجزائر، الأساطيل المتلاحقة من بلاد الإفرنجة، من أجل تكسير الجزائر وإذلالها لم تنجح، بل عادت لكها خائبة حيث نلاحظ هذه الصورة؛ بل هذا المشهد التاريخي النضالي : ''جاوا بنين الروم يحسب.. بلد الجير بقات سايبة.. أعياوا الكفار يكذب.. المدافع يرميوا بونبه.. ما لحق فيما تعذبوا.. وامشات الخزيان خايبه والله يالو كان قربوا لصاروا حيطان رايبه''. إن مجرد الدنو والقرب من شطآن المحروسة سيحول أساطيل الغزاة مثل الجدران المنهارة المحطمة. الرصيد الثقافي الجزائري هو رصيد قبل كل شي جهادي، وهذا ما ترك القصيدة الشعبية، خصوصا تلك التي تنبت على الشواطئ والمدن قصيدة نضال وترصد وإصغاء لكل مجاهد قادم من أعالي البحار، أو إلى ذلك الذي يرابط للدفاع عن مدننا، ولهذا ينبغي إعادة تشكيل الرصيد الشعري وتأهيله تاريخيا، بل من الممكن استثمار هذه الثروة الفنية في تصوير أفلام تاريخية ليس فقط إبان الثورة ضد الاحتلال؛ بل إلى ذلك التاريخ الحافل بالمقاومات الذي كتبه البحارة الذين لم يكونوا قراصنة؛ بل كانوا حرّاس السواحل وسواعد تدافع وتجاهد من أجل أن تبقى الدولة الجزائرية سيّدة، وهذا ما أنبأنا به تاريخنا البحري. تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية والجهاد البحري من الثقافة، وانتشال الفارين من محاكم التفتيش وعمليات الإجلاء التي قامت بها البحرية الجزائرية شيء من الثقافة، والصمود في وجه الغزو الأجنبي الصليبي شيء من الثقافة، وكل هذا يعّد جملة تاريخية ينبغي تصويرها في شرائط وثائقية حتى تقدم للأجيال القادمة صورا حية عن تاريخ طالما جحده وحاربه العدو، وجهله أو تنكر له الأهل واستصغروا الأعمال الجليلة التي قام بها أسلافنا الأماجد، الذين أدركوا أن الخطر كل الخطر يأتي من البحر، ولهذا عملوا ما بوسعهم ليكونوا أسوده وأسياده، وقد تحقق لهم هذا على مدار ثلاثمائة سنة من الجهاد.