هي حصة تلفزيونية تعود إلى أواسط الستينيات من القرن الماضي، لكنها تظل على حيويتها ونضارتها بحكم ما تضمنته من شخصيات وأفكار تلخص وضعية الأدب العربي كله. هي حصة ظهر فيها الدكتور طه حسين مع جمع من الأساتذة الذين كانوا في يوم من الأيام طلبة له في كلية الآداب بالجامعة المصرية: يوسف السباعي والدكتور عبد الرحمن بدوي وأنيس منصور ومحمود أمين العالم وعبد الرحمن الشرقاوي وسعد الدين وهبة ويوسف إدريس وغيرهم. طرح أولئك الأساتذة كلهم أسئلة معينة على الدكتور طه حسين فأجابهم إجابات فيها الكثير من الحث على مواصلة العمل الفكري والإبداع. وأروع ما في أولئك الأساتذة إنما هو تواضعهم جميعا أمام أستاذ الجيل كله. تابعت هذه الحصة التلفزيونية، كلمة كلمة، جملة جملة، وصورة صورة، فلم أجد لها في زمننا هذا ما يشبهها أو قد يشبهها، ذلك لأن الذين يدّعون صلة بالفكر وبالأدب يخوضون عباب بحر غضوب يحول بينهم وبين رؤية الأفق، والوصول إلى بر الأمان. وما أحوجنا إلى مثل هذا الأمان كله! وتسنى لي أن أتابع على صفحات الانترنت حصة مماثلة عن الروائي الكبير مارسيل بروست، مؤلف رواية ''البحث عن الزمن الضائع''. وجاء العديد من أدباء جيله ليبدوا آراءهم بشأنه: فرانسوا مورياك وبول موران وفيليب سوبول وإيمانويل بيرل وسيليست ألباري، خادمة الروائي مارسيل بروست إلى حين وفاته. لم يكتفوا بتلخيص حياة مارسيل بروست، بل قدموا إضافات جديدة إلى كل ما يحيط بأدبه. وقام بعضهم بالكشف عن تفاصل دقيقة عن سلوكه في قلب المجتمعات الفرنسية المخملية وعن علاقاته بأصدقائه من أدباء وجيران وخدم وخادمات. وهذه المعالجات الذاتية تكشف عن جوانب كانت غامضة في حياة بروست وفي أدبه، وأطرف ما فيها هو أنها أشبه ما تكون بتقطيع سينمائي يكشف عن خبايا غير معروفة عن هذا الروائي العظيم. هل لدينا، على سبيل المثال، مقاربات تلفزيونية مماثلة عن الطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة ومولود معمري وكاتب ياسين ومولود فرعون؟ بل، هل لدينا مشاهد تلفزيونية عن المفكر مصطفى الأشرف وعن الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ عبد الرحمن شبيان وغيرهم؟ إن مثل هذه المقاربات المصورة في هذا الزمن الذي صارت فيه المطالعة أمرا دونه خرط القتاد كما يقول المثل، هي التي توطد العلاقات بين أبناء الجيل الطالع والمفكرين الذين ازدهت بهم أرض الجزائر. وإذا لم تكن موجودة اليوم في أرشيف التلفزيون الجزائري، فما أحوجنا إلى أن نفكر في إنجاز أمثالها في المستقبل.