طه حسين أذكر أن جامعة الجزائر نظّمت في نوفمبر 1989 ملتقى علميا تخليدا للذكرى المئوية لميلاد عميد الأدب العربي طه حسين. وأذكر أيضا أن مداخلات الأساتذة المشاركين تناولت طه حسين كرائد للتيار المجدّد في الفكر العربي. وتحدّثت عن مفهومه للأدب وتوظيفه للأساليب والمناهج الغربية في إحياء التراث، وحلّلت نظرياته المتطوّرة بالنسبة لعصره، وأشادت بإسهامه الرفيع في نهضة الصحافة وترقية الترجمة والحركة النقدية بصفة عامة. وأسهب بعض الأستاذة في الحديث عن أسلوب طه حسين المشرق السهل الممتنع الذي اجتمعت فيه ''منطقية اليونان وسلاسة اللاتين وفصاحة العرب''. وآخرون ذكروا له فضله على الحياة الفكرية في الجزائر، وأثره الحميد على البحث العلمي في الجامعات الجزائرية بما زرعه من أدوات ومناهج بحث حديثة في أوساط المعرّبين. هذه الجوانب الغنّية المتعددة في شخصية طه حسين وفكره غطّت على نقطة مجهولة غامضة في مساره، وهي علاقته بالجزائر وموقفه من الاستعمار الفرنسي ومن الثورة الجزائرية. ولعلّ سبب عدم الخوض في هذه المسألة يرجع إلى شحّ المعلومات وتناقضها، إذ لم يكتب عنها أحد سواء في مصر أو الجزائر، إذا استثنينا بعض الإشارات المحتشمة التي تفتقد إلى التوثيق. ولذلك أعتقد أن المقام لا يتسع الآن إلا لذكر المحطات الأساسية في علاقة طه حسين بالجزائر، ولنرجئ الكلام المفصّل فيها إلى فرصة أخرى. محطة طه حسين الأولى مع الجزائر ترقى إلى سنة 1948، حين بعث إليه الشيخ البشير الإبراهيمي، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ثلاث رسائل بعد الإعلان عن مشروع إنشاء معهد فاروق للدراسات العربية في مدينة الجزائر. هذه الرسائل لا أثر لها فيما خلّف الإبراهيمي من وثائق ومخطوطات، ولا ندري إذا كانت محفوظة في أرشيف طه حسين، وفيها يستبشر الإبراهيمي بوجود عميد الأدب العربي على رأس وزارة المعارف، ويتفاءل بما يمكن أن يكون لذلك من أثر حميد على تنفيذ المشروع الرائد لتأسيس معهد فاروق. وعبّر الشيخ الإبراهيمي لطه حسين عن قناعة قطاع واسع من النخبة الجزائرية بأن هذا المعهد سيمثل نقطة تواصل مع الإخوة المصريين، لكن ورغم الحماس الذي حظيّ به المشروع في الجزائر، خاصة في أوساط الحركة الإصلاحية، إلا أنه أجهض بسبب العراقيل التي وضعتها الإدارة الاستعمارية خوفا من تحوّله إلى مركز اشعاع للثقافة العربية. هذه العراقيل دفعت طه حسين إلى توجيه تحذير عنيف وواضح إلى الحكومة الفرنسية، يهدّد بغلق كلّ المعاهد والمدارس التعليمية الفرنسية إذا حاولت فرنسا إفشال هذا المشروع. وقد نشرت مجلة ''روز اليوسف'' في عددها الصادر في 11 ديسمبر 1951 خبرا عن هذا التحذير، وهذا نصه: ''إنذار من الدكتور طه حسين إلى حكومة فرنسا، تلّقت الحكومة الفرنسية إنذارا من معالي الدكتور طه حسين باشا جاء فيه أنه سيغلق جميع مدارس الليسيه الفرنسية في مصر إذا لم توافق فرنسا على إنشاء معهد مصري لدراسة الثقافة العربية في الجزائر، وينتظر أن ترضخ الحكومة الفرنسية لهذا التهديد إشفاقا على نفوذها الثقافي في مصر''. وقد ثمّنت النخبة في الجزائر آنذاك موقف طه حسين تثمينا عاليا، آملة أن يواصل ضغطه على الفرنسيين لإفشال محاولاتهم إجهاض مشروع معهد فاروق الذي علّق عليه الجزائريون آمالا عريضة، في وقت كانت اللغة العربية تتعرض لمضايقات السلطات الاستعمارية. وقد أعادت جريدة ''المنار'' التي كان يصدرها في الجزائر محمود بوزوزو نشر الإنذار في صفحتها الرابعة يوم 21 ديسمبر .1951 وبعد مرور خمسين سنة مازال المثقفون الجزائريون يفتخرون بموقف طه حسين الشجاع، وقد عبّر عن ذلك الأديب شربيط أحمد شربيط بقوله: ''إن هذا الإنذار يعبّر عن موقف يحمد عليه الدكتور طه حسين، وتنبع عظمة هذا الموقف من منزلة صاحبه الاجتماعية أولا، ومن موقفه العلمي ثانيا''. المحطة الثانية لطه حسين مع الجزائر يشوبها الكثير من الغموض، وتتضارب حولها الآراء، وأثير حولها جدل كبير، ولم يجرؤ أحد على الإفاضة في شرحها. ويتعلّق الأمر بموقفه من الثورة الجزائرية. بعض السياسيين والمثقفين الجزائريين يذكرون أن طه حسين زار تونس ,1958 وأثناء وجوده هناك دعته الحكومة الجزائرية المؤقتة لحضور حفل تضامني مع الجزائر المكافحة. غير أن طه حسين فضّل تلبية دعوة السفارة الفرنسية في تونس في نفس اليوم. ويفسر البعض هذا الموقف بمناورة قام بها السفير الفرنسي للتأثير على طه حسين والحيلولة دون حضوره إلى جانب إخوانه الجزائريين. ويشاع أيضا أن طه حسين سئل عن موقفه من الثورة الجزائرية، فأجاب أنه لا يشتغل بالسياسية، ليس له رأي يقوله فيها. المحطة الثالثة عبارة عن رسالة رقيقة بعثتها زوجته سوزان في جانفي 1968 إلى الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، تطرّقت فيها إلى أمور كثيرة. ذكرت لقاءهما الأول في فيلا رامتان، وتحدّثت عن الصداقة والدين، وعن الزواج بالأجنبيات، وعن تعدد الزوجات، وأشياء أخرى. وكتبت في رسالتها أن طه حسين يمرّ بأزمة نفسية عصيبة، جعلت حياتهما لا تطاق، خاصة بعد نكسة جوان- يونيو .1967 وتذكر سوزان أنها قرأت كتاب أحمد طالب ''رسائل من السجن''، وهي الرسائل التي بعث بها من سجنه في فرنسا إلى بعض المناضلين والأصدقاء ومجموعة من المثقفين الفرنسيين، مثل جاك بيرك ومكسيم رودنسون وألبير كامو. عبّرت سوزان في هذه الرسالة عن إحساسها العميق بآلام أحمد طالب في السجن احترامها لكلماته الممزوجة بالآلام، خاصة حين يكون المتكلّم عرضة لظلم كبير. ووردت في الرسالة عبارة تحمل دلالات كبيرة هي: ''قلبي كان مع ثورتكم، ولكن ليس لي أن أخوص في أمور معقدة''. وأعتقد أن سوزان تتحدث هنا بلسان زوجها طه حسين الذي كان قلبه مع الثورة الجزائرية، لكنه لم يكن مستعدا للخوض في قضايا التحرر الوطني واستعمال العنف كوسيلة للتغيير، عكس المثقفين المصريين الآخرين مثل عبد المعطي حجازي ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف شاهين ومحمد حسنين هيكل ولطفي الخولي الذين تبنوا القضية الجزائرية وعبّروا عن تضامنهم معها في أعمالهم ومواقفهم. [email protected]