اقترن اسم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالدبلوماسية أكثر من الميادين الأخرى، غير أن مساره السياسي لم ينته بانتهاء مهمته الى جانب الراحل هواري بومدين بعد وفاته نهاية السبعينات، بل عاد بعد عقدين من الزمن قضاهما بعيدا عن الوطن ليشغل منصب القاضي الأول في البلاد ويكون محور التطورات والنقاشات التي تعرفها الجزائر في الوقت الراهن· طالع ص2-3 او الحدث ولم تكن تجربته في الدبلوماسية الا رصيدا وظف في مجاله الطبيعي لما كانت الحاجة إليه بعد أن تولى الرئاسة في افريل 1999 وأمزج الدبلوماسية بالسياسة وتمكن من اخراج البلاد من العزلة لتصبح في الواجهة الإقليمية والقارية والعالمية، وقال متتبعون وطنيون وأجانب بخصوصه انه أخرج الجزائر من نفق مظلم بعد أن ظن الكثيرون أن علاج تلك الأوضاع مستحيل· مسيرة شخص الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لم تبدأ منذ تعيينه على رأس وزارة الشباب والرياضة في عهد الرئيس احمد بن بلة ولا في الثقة التي وضعها فيه الراحل هواري بومدين الى درجة "اعتلائه" مرتبة اقرب المقربين إليه، ولكن كان دوره إبان الثورة التحريرية بارزا مما أهله لأن يكون في الصفوف الأولى للنظام السياسي بعد الاستقلال فهو كما يروي المؤرخون سبق أن ذاع صيته إبان الثورة التحريرية، حيث التحق بالثورة وسنه لا يتجاوز 19 سنة وأسندت له مهمات حساسة وعين قائدا عسكريا برتبة رائد ولم يتجاوز سنه 20 سنة ليكون على رأس ثوار يكبرونه سنا وأوكلت له سنة 1960 مهمة قيادة الثورة على الحدود الجنوبية مع جمهورية مالي بهدف إحباط مساعي النظام الاستعماري الذي كان مرامه أن يسوم البلاد بالتقسيم ومنذ ذلك الحين اخذ اسما ثوريا هو "عبد القادر المالي"، ولم يتوقف نشاطه عند هذا الحد بل تواصل سنة 1961 حيث قاد مهمة سرية الى فرنسا للاتصال بالزعماء التاريخيين الذي كانوا في السجن وهم السادة احمد بن بلة وحسين أيت احمد ومحمد بوضياف· وبعد الاستقلال صنف السيد بوتفليقة ضمن الساسة البارزين وتولى حقيبة وزارة الشباب والرياضة والسياحة وعمره لا يتجاوز 25 عاما ثم منصب وزير خارجية وسنه لم يتجاوز 26 سنة وكان اسمه حاضرا في العديد من المحطات السياسية الهامة في السنوات الاولى ومكن احتفاظه بمنصب وزارة الخارجية وميوله للمزج بين هذه الحقيبة والسياسة من ان يشهد له القاصي والداني بالحنكة والتبصر في أمهات الأمور خاصة اذا تعلق الامر بمصالح الجزائر· وحسب عدة مواقع وطنية وأجنبية تنشر السيرة الذاتية للرئيس بوتفليقة فإن الرجل "الدبلوماسي المحنك والمعترف باقتداره وتضلعه، أعطى خلال فترة اشرافه على حقيبة الخارجية الى غاية سنة 1978 السياسة الخارجية دفعا مكنها من تحقيق نجاحات عظيمة بما في ذلك توطيد الصفوف العربية خلال قمة الخرطوم سنة 1967، ثم إبان حرب أكتوبر 1973 ضد إسرائيل، والاعتراف الدولي للحدود الجزائرية وإقامة علاقات حسن الجوار والأخوة مع البلدان المجاورة وكذلك إفشال الحصار الذي فرض على الجزائر بعد تأميم المحروقات في 24 فيفري 1971"· وإضافة الى ذلك "قام بدور ريادي في تقوية تأثير منظمات العالم الثالث وتعزيز عملها الموحد خاصة بمناسبة انعقاد قمتي منظمة ال77 ومنظمة الوحدة الإفريقية في الجزائر في1967 و1968 على التوالي"، وكان انتخاب الرئيس بوتفليقة بالإجماع رئيسا للدورة ال29 لجمعية الأممالمتحدة سنة 1974 ونجاحه خلال عهدته في إقصاء إفريقيا الجنوبية بسبب سياسة التمييز العنصري التي كان ينتهجها نظام بريتوريا آنذاك، ومكن، رغم مختلف المعارضات، الفقيد ياسر عرفات، زعيم حركة التحرير الفلسطينية من إلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مما شكل منعرجا حاسما في مسيرته الدبلوماسية وأكسبته هذه المحطة عرفانا إضافيا من غالبية ساسة العالم آنذاك· وتشير النبذة الرسمية الشخصية للرئيس بوتفليقة والمنشورة على موقع الرئاسة بالتفصيل إلى السنوات التي بقي فيها الرجل بعيدا عن الأنظار والمسؤولية وتوضح انه بعد "وفاة الرئيس هواري بومدين في 1978، وبحكم العلاقة الوطيدة التي كانت تربطه به، ألقى كلمة وداع بقيت راسخة في الأذهان، لكنه أصبح في ذات السنة الهدف الرئيسي لسياسة محو آثار الرئيس هواري بومدين حيث أرغم على الابتعاد عن الجزائر لمدة ست سنوات" ويضيف نص النبذة لقد "عاد بوتفليقة إلى الجزائر سنة 1987 حيث كان من موقعي "وثيقة أل18" التي تلت وقائع 05 أكتوبر 1988· كما شارك في مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني في 1989 حيث انتخب عضوا للجنة المركزية·" وبعد ذلك "اقترح عليه منصب وزير-مستشار لدى المجلس الأعلى للدولة الهيئة الرئاسية الانتقالية وضعها من 1992 إلى 1994 ثم منصب ممثل دائم للجزائر بالأممالمتحدة لكنه قابل الاقتراحين بالرفض· كما رفض سنة 1994 منصب رئيس الدولة في إطار آليات المرحلة الانتقالية· هكذا قضى الرئيس بوتفليقة عقدين بعيدا عن السلطة وعن الأنظار، ولكن بمجرد أن اعلن الرئيس السابق اليمين زروال استقالته من منصب الرئاسة عاد اسمه ليبرز من جديد في اعمدة الصحافة ويتداول على نطاق واسع في اروقة السياسة وتمكن من أن يضمن مساندة اغلب التيارات في البلاد رغم الانقسام الواضح الذي كان وقتها في صفوف التجمع الوطني الديمقراطي الذي كان يحوز على الاغلبية البرلمانية وحزب جبهة التحرير الوطني القوة السياسية الثانية في البلاد، بعد ترشح منافسين له يحظون بمساندة من مناضلين في التشكيلتين من بينهم السادة مقداد سيفي ومولود حمروش واحمد طالب الابراهيمي· ومباشرة بعد إعلان نتائج الرئاسيات التي جرت في 15 أفريل 1999 توجهت الأنظار إلى ما يتخذه من اجراءات لاخراج البلاد من النفق المظلم الذي كانت تتخبط فيه بفعل الازمة الامنية· وحسب المتتبعين فإن الرئيس بوتفليقة لم يكن لينجح في مهمته الرئاسية لولا حنكته في التعامل مع الصعاب وقدرته على الاقناع واول ما نجح في فعله هو تشكيله لحكومة جمعت كل الاطياف السياسية بما في ذلك احزابا كانت في المعارضة ومن ابرزها انضمام التجمع من اجل الثقافة والديمقراطية الذي يترأسه سعيد سعدي للفريق الحكومي بمشاركة وزيرين من حزبه في الحكومة، ولم يصدق المتتبعون حينها نتائج الحوار مع الأحزاب إلى درجة ان البعض بدأ يتساءل عن "الوصفة السحرية" التي استخدمها لاقناع جميع التيارات السياسية في البلاد للانضمام الى الفريق الحكومي الذي يكلف بتنفيذ برنامجه الانتخابي· وشرع الرئيس بوتفليقة منذ عامه الاول في اتخاذ قرارات جريئة في سبيل معالجة الازمة الامنية ورافق ذلك مبادرات لإصلاح الأوضاع العامة في البلاد في مجالات التربية والعدالة والاقتصاد وهياكل الدولة· ويبقى مشروع الوئام المدني الذي صوت عليه الشعب الجزائري في سبتمبر 1999 اهم قانون بادر به خلال العهدة الأولى من حكمه، وفتح الباب امام استسلام ازيد من 6 آلاف مسلح للسلطات الأمنية، مما ساهم في إخماد نار الفتنة وإعادة الأمن والسلم والاستقرار، كما مهد لاطلاق مشاريع تنموية ابرزها مشروع الانعاش الاقتصادي الذي خصصت له عشرات الملايين من الدولارات· ولم يكن مشروع الوئام إلا "أول جرعة" يقدمها للجزائريين من اجل تضميد الجراح وجاءت "ثاني جرعة" وهي المصالحة الوطنية كحقنة لمرض استعصى علاجه فوجد المبادر بها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ان التداوي من هذا الداء يجب ان يقوم على معالجته من كل الجوانب حتى لا يترك المجال للشوائب أو لما قد ينكأ الجرح ثانية، لذلك كرس عهدته الثانية لمعالجة كل تشعبات الأزمة الأمنية وإرهاصاتها وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية وحتى الإنسانية وتم بفضلها تسوية ملف عائلات ضحايا المأساة الوطنية وأطلق سراح اكثر من 2000 سجين وعولج ملف المفقودين· وبدا الرئيس في السنوات الأولى من حكمه في جس نبض الشارع وبخاصة فئة الشباب ومكنته تنقلاته الى الولايات من اخذ صورة حقيقية عما يطمح إليه الشباب الجزائري ولذلك بادر من جهة ببرنامج دعم النمو الذي خصص له اكثر من 155 مليار دولار، ومن جهة ثانية وضع ميكانيزمات التكفل بهذه الفئة وجعلها قادرة على رفع تحديات المستقبل من خلال توفير آليات إنشاء مؤسسات صغيرة ومتوسطة ووضع إستراتيجية للتشغيل خاصة بهم· ومازاد من حرص الرئيس على نجاح سياسة الاصلاح هي طريقة التعامل مع الطاقم الحكومي والآلية الجديدة "لمحاسبة الوزراء" التي اصبحت تقليدا منذ العهدة الرئاسية الثانية حيث يستقبل كل واحد على حدة ويجلس معه لساعات طويلة دون انقطاع يتطرق فيها الى كل كبيرة وصغيرة من البرامج المسطرة ويقدم توجيهات ويصحح اخطاء ويصدر تعليمات، وأكثر من هذا فإن الرئيس لم يتوقف يوما عن متابعة مدى تنفيذ المشاريع في الميدان ولا يكتفي بالتقارير التي توفد الى الرئاسة مغلوطة كانت ام صحيحة بل دأب على النزول الى الميدان وخص ولايات بزيارات دامت لأيام اطلع خلالها على أدق التفاصيل في المشاريع المنجزة والتي هي في طور الانجاز وكم من مرة انتقد طريقة تسيير بعض المسؤوليين المحليين، وراقب حتى أولئك الذين يواصلون في بناء الشقق ذات الغرفة الواحدة "المحرمة" منذ سنوات كونها لا تتلاءم والعائلة الجزائرية· وتبرز طريقته في تسيير امور البلاد حرصه على ان يكون في خدمة "بلده" ليس الا، كما قال في خطاب ألقاه في إحدى الولايات صيف 2005 خلال حملة الاستفتاء على مشروع ميثاق السلم والمصالحة الوطنية حيث اكد ان همه الوحيد هو "خدمة الجزائر"· وبين كل هذا يشهد الجميع للرئيس بوتفليقة انه تمكن من توظيف رصيده الدبلوماسي لخدمة الجزائر سياسيا واعاد لها بريقها من خلال تواجدها الدائم في محفل الامم ومشاركتها في اكبر واهم اللقاءات الدولية منها مشاركته الدائمة في قمة الثماني الكبار ممثلا للدول الافريقية في اطار برنامج الشراكة من اجل تنمية إفريقيا المعروف اختصارا باسم النيباد· ولم يكن للجزائر أن تستعيد "ذلك المجد" لولا الإصلاح الذي مس الجبهة الداخلية ويقصد هنا الأزمة الأمنية فلولا السياسة الداخلية المعتمدة ونجاح سياسة الوئام والمصالحة ورأب الصدع لما كانت للبلاد هذه المكانة، وهذا الحكم لم يصدر فقط من مؤيدي الرئيس ولكن حتى خصومه·