من الصعوبة بمكان تقديم شاعرة في عمر الزهور وشعرها خلاصة لتجربة عصور، شعر فيه من القوة في النسج، وفيه من المتعة، وفيه من البيان ما يؤكد نبوغ شاعرة في سن مبكرة، إنها الشاعرة لطيفة حساني التي استضافتها الجاحظية مؤخرا وصفق لها الكتاب والشعراء ورجال الإعلام، وكانت شحرورة على فنن من الشعر يثمر أجمل الكلمات وأروع القصائد. لم تكن أماسي الجاحظية مطرزة بمثل هذا الشعر، وقد مر على منبرها مئات الشعراء والشاعرات، ولم يكن الشعر بهذه القوة والمتانة لأن معظم من مروا تلبسوا برد الشعر ممزقا مهلهلا وكأنهم ابتاعوه من سوق الملابس القديمة البالية، فغابت نضارته، واتسخ منظره، ولم يبق له إلا ذلك الإسم المزيف الذي علق في داخله كأي »ماركة« ملابس. تأتي الأمسية الاستثنائية من أماسي الشعر لتؤكد للشاعر نزار قباني رحمه الله، أن بلابل الشعر ما تزال تغرد أجمل وأعذب الكلمات، وأن دار الشعراء ما تزال عامرة بالفحول منهم وليس كما ظن هو : '' لم يبق في دار البلابل بلبل لا البحتري هنا.. ولا زرياب شعراء هذا اليوم جنس ثالث فالقول فوضى والكلام ضباب يتكلمون من الفراغ.. فما هم عجم إذا نطقوا ولا اعراب'' شاعرتنا وافقت نزار في حكمه القاسي وخصصت قصيدة في هذه الأمسية تحت عنوان »ويهتفون بحياة الرداءة«، تقول فيها لطيفة حساني: ''تعلم القمر الغرّيد أسئلة ما للنجوم يواريهن إقصاء أرى الجنادل تزهر في دناءتها وكم تسيدها باللؤم أهواء بوهمهم أخمدوا شمسا كما جهلوا أن اليمامة في التاريخ زرقاء''... وتمضي الشاعرة النابغة لتؤكد أن الرداءة مهما استفحلت وعمت، فإن الشمس حتى وإن تحالفت على إخفاء نورها السحب والغمائم فإنها ستخترق كل حصار لذلك التحالف بنورها وتشرق لتظهر الحياة بكل ما فيها من جمال وتنوع. تمضي الشحرورة البسكرية على خرائط المحال دون خوف ولا وجل، لأن الشعر يرتدي برد البقاء والخلود، عكس نزار الذي مشى على الخريطة خائفا كخوف الغريب حين يقول: ''أمشي على ورق الخريطة خائفا فعلى الخريطة كلنا أغراب أتكلم الفصحى أمام عشيرتي وأعيد.. لكن ما هناك جواب'' فأتحفت لطيفة الجمهور الحاضر لهذه الأمسية بقصيدتها الثانية »قلب بحجم الرؤى« وأعلنت في قصيدتها هذه أنها تمشي على قدم المحال : ''أمشي على قدم المحال ترقبا للبحر حين يصعّد العنقاءا الموت أغفى في جداول وردنا والثغر عبّ وأظهر استهزاءا لا ضير إن غبن بعتمات الردى فالشعر يلبسه الزمان بقاءا عمرا صبرنا عن تأخر غيثنا حتى غدونا في السحائب ماءا''... هكذا غنت شاعرة النخيل كأي حمامة على رأس لينة فرعاء، وقد اهتزت القاعة بموجة من التصفيقات، وهي - القاعة - تؤكد للشاعرة أنها شاعرة بالفعل وليست كالبعض الذين مروا من هناك، لم تستطع الشاعرة لطيفة إمساك الدموع وهي تلقي قصيدتها الأخيرة في تلك الأمسية الرائعة، قصيدتها »في مهب الحزن« والتي تقول فيها: ''خلق يا ثوب صبري واحتمالي جمل الدرب كبا من سوء حالي يالذلي واغترابي واضطرابي وانتساب لأحايين خوالي''
وعندما سألناها عن سبب ذلك البكاء، أخبرتنا لطيفة أنها فقدت والدها الذي هو معلمها منذ عشرة أيام، رحم الله والد لطيفة، الذي رعاها وسقاها من رحيق العربية وبحورهاالماء العذب الصافي فتفجرت شعرا قويا حكيما بعيدا عن الرداءة، وصدق نزار قباني حين قال : '' نار الكتابة أحرقت أعمارنا فحياتنا الكبريت والأحطاب ما الشعر؟ ما وجع الكتابة؟ ما الرؤى أولى ضحايانا هم الكتاب يعطوننا الفرح الجميل... وحظهم حظ البغايا.. ما لهن ثياب''... وهكذا أنهت أمسيتها بقصيدتها في مهب الحزن.