عندما كانت الكلمة دواء تُشفى بها الأسقام، والموسيقى خلوة ترتاح في سمائها القلوب العاشقة، وتسهم في قضائها العيون الساهدة، كان الفن الأصيل راح الأسماع، وراحة للبال، ومتنفسا للهموم، الأصالة بالكلمات الجميلة وبالموسيقى الرائعة هي ذي ميزة الشيخ الحاج بوجمعة العنقيس الذي أثرى الأغنية الشعبية الجزائرية ورفع من رصيدها الفني الذي يعتمد على جودة الكلمات وروعة الموسيقى، ونظرا لمكانة هذا الفنان العملاق، خصّته وزارة الثقافة في مجموعتها ''التراث الموسيقي'' بكتاب تحت عنوان »الشيخ الحاج بوجمعة العنقيس«، جمع فيه الباحث عبد القادر بن دعماش أعماله وترجم حياته. الشيء الذي يتميز به الفنان الجزائري الأصيل، هو الإلتزام بهذه الأصالة، النهل منها والتخلق بسيّر الشيوخ، والتواضع لهم والاعتراف بفضلهم، ومن هؤلاء الشيوخ الكبار؛ الشيخ الحاج بوجمعة العنقيس، فمن هو هذا العملاق الشعبي الجزائري؟ يقول الأستاذ الباحث عبد القادر بن دعماش في ترجمته لحياة الشيخ: »بقصبة الجزائر العاصمة، والتجديد بزنقة النخلة في بيرجباح، يوم 17 جوان,1927 ولد الوجه البارز من وجوه أغنية الشعبي بوجمعة محمد أرزقي، المعروف باسم بوجمعة العنقيس«. ويضيف الأستاذ عبد القادر بن دعماش في ترجمته لهذا الفنان الكبير؛ »يعود أصله إلى قرية آيت أرهونة، غير بعيدة من أزفون... تدرّج في أقسام التعليم بمدرسة ابراهيم فاتح، وتحصّل على شهادة التعليم الابتدائي (الخاصة بالأهالي) سنة ,1939 واتجه بعدها إلى عالم الشغل من أجل مد يد العون إلى عائلته الكبيرة، وكان ذلك خلال سنة اندلاع الحرب العالمية الثانية«.
بوجمعة العنقيس الفنان بعد أن قدم الأستاذ عبد القادر دعماش بوجمعة العنقيس الشاب، التلميذ والعامل، ها هو يقدم لنا بوجمعة العنقيس الفنان، كيف تأثر بالشيخ الحاج محمد العنقا الذي ترك بصمات كبيرة في حياته الفنية، وكيف كان يتزوّد بالنصح من الشيوخ في اختيار القصائد، حيث يقول مترجم سيرة الفنان: »تعلّقه بالموسيقى يعود إلى الفترة التي كان الحاج محمد العنقا قد خطا فيها خطوات كبيرة نحو الشهرة.. ولم يكتشف الشاب محمد بوجمعة ميله الأكيد نحو الأغنية إلا وهو يردد ألحان هذا الشيخ الكبير، هذا الأخير الذي ملك شغاف قلبه وعقله إلى حدّ جعله يقتني أول آلة قيثارة دون علم والديه بالأمر«. ويمضي الأستاذ بن دعماش في سرد قصة الشيخ الحاج بوجمعة العنقيس مع الفن وولعه بالغناء، واقتنائه لقيثارة خفية عن والديه، فيقول: »لم يجد حيلة آنذاك، إلا أن يودع آلة أحلامه عند جاره الحلاق؛ عمي ابراهيم عابد، الذي لم يكن يبخل عليه بنصائحه الثمينة في اختيار القصائد وكيفية أدائها... بحي السيدة الإفريقية، سنة 1941 تمكن من الإلتقاء بأستاذه الحقيقي الشيخ حمدان قبايلي، الذي عمل على تأطيره حين ضمه إلى مجموعته الموسيقية«. ويضيف الأستاذ بن دعماش في تسجيله لتراثنا الفني الجزائري قائلا: »موسقيون أغنياء عن التعريف، أمثال موح أكلي عياد بآلة الطار، محمد كعبور بآلة البانجو، رشيدي محمد المدعو الشيخ الناموس بآلة البانجو كذلك، ولخضر العشاب بآلة ''الدربوكة''، التحقوا به سنة ,1944 عندما قرر تكوين جوقه الموسيقي الخاص«. ويستمر بن دعماش في سرد قصة الحاج بوجمعة العنقيس مع الفن، فيقول؛ »كان محمد بوجمعة يرتاد مقهى ''مالاكوف''، المكان الذي يحج إليه »ناس الشعبي« آنذاك، كان الحاج مريزق يشرف على هذا المقهى الواقع بشارع القصر العتيق (القصبة السفلى باتجاه ساحة أول نوفمبر)، هذا الأخير أغدق عليه نصائح كثيرة حول الأداء الصحيح والدقيق ل»المشيخة«. وفي هذا المقهى، التقى بالشيخ ابن زكري، مدير الثانوية الفرنسية لبن عكنون، وهو الذي شجعه على تعلم اللغة العربية الفصحى، باعتبارها وسيلته الوحيدة للتحكم في معاني الشعر الشعبي«. في مطلع الخمسينيات، حاز بوجمعة العنقيس لقب الشهرة ''بوجمعة العنقيس''، وكان منافسا لأعمدة أغنية الشعبي؛ كالحاج منور، الحاج مريزق خليفة بلقاسم، عبد الحكيم ?رامي، محمد ماروكان، وحمدان قبايلي، سجن إبّان الثورة التحريرية في سنتي1957 و,1960 وفي الاستقلال، يلتقي بمحبوباتي الذي يخوض معه تجربة الأغنية القصيرة. اشتغل بوجمعة العنقيس أستاذا بالمعهد الموسيقى لبلدية الأبيار، ومع الملحن محمد الباجي، أنتج بعض العناوين منها؛ »يا المقنين الزين«، »بحر الطوفان« وغيرها من الأغاني، كما أنتج بوجمعة العنقيس أربع أغنيات بالقبائلية، من تلحين كمال حمادي. كرم الشيخ بوجمعة العنقيس من طرف هيئات وجمعيات وطنية. وقد غنى بوجمعة العنقيس لكبار مشايخ الشعر الشعبي منهم؛ الشيخ ادريس المغرابي، قصيدة »الصلاة على المداني سراج لبصار«، وغنى للشيخ لخضر بن خلوف »أحسن ما يقال عندي« و»ياصاحب الغمامة«، كما غنى للشيخ محبوب صفارباتي »خايف الله«، وغنى للشاعر أحمد بن تركي »ياعشيق أعذرني«، ومن نظمه؛ قصيدته المشهورة »أناي بجفاك«، كما غنى للشيخ محمد بن مسايب، الشيخ بلقاسم البوراشدي، وغنى أيضا لكمال حمادي وغيرهم من الشيوخ. الشيخ الحاج بوجمعة العنقيس ركيزة من ركائز الأغنية الشعبية الجزائرية، أثرى المكتبة الغنائية بفنه الجميل وذوقه الرفيع، أطال الله في عمره.