كثيرا ما يتضجر الناس من نقائص تنموية وعراقيل بيروقراطية وغياب للمرافق والمنشآت وندرة للسلع والمستلزمات، لكن عندما تتوفر هذه الأمور، ينشأ نوع آخر من التضجر والقلق وهو نتاج استعمال واستغلال ما هو موجود من وسائل ومنشآت وسلع في مختلف ميادين الحياة. ومحل الشاهد هنا هو ما نراه يوميا من "إرهاب الطرقات"، حيث أن جودة المسالك وحداثة المركبات صارت نقمة بعد أن كانت نعمة وأضحت سببا في هلاك البشر، وليس أكبر وأهم سبب في ذلك هو الإنسان سائقا وراجلا، فالتقارير اليومية التي تتحدث عن أسباب الحوادث المرورية المميتة لا تخرج في مجملها عن كونها بفعل السرعة المفرطة وخرق قوانين وضوابط السياقة. وكذلك الأمر بالنسبة لوسائل الاتصال اللاسلكية، فالهواتف النقالة التي يفترض أن تسهل أمور الحياة وتزيد في الإنتاج والاتصال الجماهيري والمؤسساتي وتغير تصرفات البشر نحو الأفضل، نراها صارت نقمة عندما تستعمل في غير محلها، فسائقو المركبات الذين لا يستعملون السماعات لتسهيل الاتصال يقترفون مخالفات كبيرة تكون وراء حوادث مميتة. وأمام نعمة هذه الوفرة التي حولتها تصرفاتنا إلى نقمة، لا يمكننا التحجج بالندرة وإلقاء اللائمة على الماديات دون الالتفات إلى الذهنيات، هذه الأخيرة التي يتعين فرملة تهورها وإزالة سقطاتها التي لا تنتهي، ولا يكون ذلك إلا بمتابعة دائمة ومراقبة لصيقة وتحسيس دائم، حتى تدوم النعمة وترحل النقمة بلا رجعة.