عملت السياسة الاستعمارية على فصل الجزائريين عن ثقافتهم العربية الإسلامية، فاعتمدت استراتيجية التجهيل الشامل إلا من رحمته سلطة الاحتلال وكان من أبناء بعض خدام الدولة الفرنسية، إلا أن الجزائريين لم يستكينوا ولم تمت فيهم جذوة طلب العلم وتحصيله والعمل له، فأسسوا النوادي الثقافية والمطابع والمكتبات وحاولوا قدر استطاعتهم إبقاء ولو خيط رفيع مع حضارتهم وتاريخهم وثقافتهم، فلعبت في ذلك المكتبة الثعالبية دورا كبيرا في طباعة الكتاب وتوزيعه عبر الوطن عن طريق الطرود البريدية بأثمان معقولة.ونحن نحتفل بعيد الاستقلال الخمسين ولم تفصلنا عن المعرض الدولي السابع عشر للكتاب إلا أيام معدودة، إرتأينا أن نقدم بعض الكتب الموجودة في قائمة المكتبة الثعالبية سنة 1325 ه/ 1907م. نحتفل بعيد الاستقلال الخمسين والذي يستمر لمدة سنة كاملة وهذا قليل في حرية اكتسبناها بالدم والدموع، وكيف لا والاستعمار الفرنسي احتفل بمناسبة المائة لاحتلاله الجزائر ثلاث سنوات كاملة من 1927 الى 1930 ولم تكن سنة 1927 اعتباطية، بل جاءت بمناسبة تحطيم الاسطول الجزائري في معركة نافرين سنة 1927 والذي ابعد من خلال تحطيمه من الدفاع عن الجزائر، ولهذا جاء الاحتفال في هذه السنة كما احتفلت سلطة الاحتلال بسقوط مدينة قسنطينة 1837 أي بمائة سنة من سقوطها 1937م. الكتاب خير جليس وأنيس وذاكرة وتاريخ، ولأن الجزائريين اعطوا اهمية للكتاب، بل كثيرا من الأسر الجزائرية كانت تمتلك مكتبات تحتوي على مئات الكتب، فإن السياسة الاستعمارية حاربت المكتبات والمكتبيين الجزائريين إبان احتلالها وذلك من خلال مصادرة الكتب والخزائن المكتبية المعروفة وينقطع التواصل بين الجزائريين وثقافتهم وحضارتهم العربية الإسلامية. ورغم الصعاب الذي واجهها الجزائريون من قبل المحتلين الفرنسيين من تفقير وتجهيل واستلاء على اراضيهم حتى قال عن ذلك المثقف الجزائري الرئيس فرحات عباس رحمه الله: “ ستة ملايين من السكان لم يبق في أيديهم سوى أرض جرداء قاحلة، وبلغ الثلثان من هؤلاء السكان من الجوع والبؤس والفاقة مبلغها، جردت القبائل الغنية والقوية من خيراتها.. ولم يبق في وسع العربي الذي اصبح غريبا في أرض الأجداد إلا ان يكون خادما للمعمر”. كانت الأوضاع الثقافية في الجزائر صورة حية لسياسة التجهيل التي انتهجتها السلطات الاستعمارية منذ 1830 في القضاء على الثقافة العربية الإسلامية تمهيدا لدمج الجزائريين في الكيان الفرنسي، فكان التعليم الفرنسي كما وصفه مالك حداد رحمه الله، يؤكد في مدارس الجزائر أن آباء الجزائريين من أصل فرنسي، كما أكد ذلك الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر في كتابه “عارنا في الجزائر”، حيث قال “ولكننا على كل حال أردنا أن نجعل من إخواننا المسلمين شعبا من الأميين”. كما صدرت القوانين الفرنسية من أجل التضييق على الجزائريين حتى لا يتثقفوا وتسود الأمية بينهم، ففي 26/ 12/ 1904 صدر قانون فرنسي يحظر على كل جزائري أن يفتح أو يتولى إدارة مدرسة عربية او كتاب لتعليم القرآن الكريم إلا بترخيص من الإدارة الفرنسية. رغم هذه المضياقات تمسك الجزائريون بالكتاب، وهاهي المكتبة الثعالبية لأحمد بن مراد التركي في الجزائر تسد فجوة كبيرة ، فقد جاء في إشهار المطبعة الثعالبية لأحمد بن مراد التركي القول: “المطبعة الثعالبية مستعدة للطبع باللغتين العربية والفرنساوية لجميع الكتب والرسايل...”. كما أصدرت المكتبة الثعالبية سنة 1907 قائمة الكتب الموجودة في المكتبة الثعالبية لمن أراد اقتناء الكتب، وأن القائمة الموجودة ترسل مجانا لمن يطلبها وهي المعتمد عليها تحت شعار: “الدين ممنوع.. والعتاب مرفوع”، وجاء في مقدمة القائمة والتعريف بها قول صاحب المكتبة أحمد بن مراد التركي وأخيه: “هذه القائمة مشتملة على أسماء الكتب الموجودة في مكتبتنا المجلوبة من أحسن المطابع مع بيان أسعارها التي لا تقبل المهاودة وكل من يرغب في اقتناء أي كتاب يرسل لنا ثمنه مع اجرة حمله ماندة على البوسطة المبين ذلك كله أمام كل كتاب...”. كما وضع تنبيها حول ثمن حمل الكتب “إن ثمن الحمل الموجود أمام كل كتاب مختص بعمالات الجزائر ووهران وقسنطينة وبلاد تونس وفرنسا...”. وتصدرت القائمة الكتب المطبوعة على ذمة المكتبة الثعالبية وكان على رأسها المصحف الشريف، وتذكر أسباب طباعة هذا المصحف باعتبار أن المصاحف المطبوعة في المشرق لا تتجاوز قراءة حفص، بينما جرى العرف في الجزائر بالاقتصار على قراءة نافع برواية ورش. وهذا ما ادى الى طباعة المصحف الشريف على هذه القراءة بخط مغربي واضح وجلي جميل على ورق ابيض جيد صقيل. وقد طبعت بالمكتبة أيضا كتب خاصة بمناسك الحج على المذاهب الأربعة، بالإضافة الى ذلك طبعت كتاب “مفيد المحتاج للشيخ سحنون”، المدعو الونشريسي، شرح المنظومة المسماة بالسراج للشيخ سيدي عبد الرحمن الأخضري في الفلك، كما طبعت في الأدب “قصة الطفيل” و«الممتع في شرح المقنع” للشيخ ابى عبد الله محمد بن سعيد السنوسي، ومختصر الشيخ سيدي عبد الرحمن الأخضري في العبادات على مذهب الإمام مالك، ورسالة في معنى الدين والفقه والإسلام والإحسان... وفي الهندسة “مثلثات قطرب” وهو للشيخ أبي علي محمد الشهير بقطرب. ووضعت المكتبة الثعالبية مصاحف مجزأة بخط مغربي وتفاسير للقرآن الكريم لمختلف المفسرين، ومصاحف مطبوعة بمصر. كما خصصت جانبا للحديث النبوي الشريف وقسما لكتب التوحيد، وقسما في الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، وقسما لفقه على مذهب الإمام مالك، وقسما خاصا بكتب فن الأصول، كتب في التصوف، كتب في المدائح والأدعية والأذكار، كتب اللغة والنحو والصرف، كتب في البلاغة والمعاني والبيان والبديع والمنطق والعروض، كتب في الأدب، وهناك قصص وحكايات شعبية منها: “جامع اللطايف وكنز الخرايف” وهو مجموع حكايات باللغة الدارجة للعلامة دلفين، وقد ترجمه الى اللغة الفرنسية الجنرال فوربيكي، وقسم خصصه لكتب التاريخ، كتب الخطب وشرحها، الدواوين والكتب الشعرية، كتب في الطب، كتب في الحساب والفرائض، وكتب في علوم مختلفة، كتب القصص والنوادر منها، “ألف نادرة”، كتاب “ألف نهار ونهار” الجزء الأول، كما في القائمة كتب طبعت بفاس. هذه مكتبة نموذجا للمكاتب الجزائرية قبل مائة سنة، كيف كانت تتعامل مع الكتاب والقارئ وكيف كانت تطبع وتصدر الكتب، وفي هذه القائمة اسماء لكتب نادرة حيث أصبحت هذه القائمة مصدرا من المصادر التي يعتمد عليها في معركة الكتب التي كانت تطالع سنة 1907 في الجزائر. الصالون الدولي السابع عشر للكتاب يأتي هذه السنة ونحن نحتفل بعيد الاستقلال الخمسين والذي اصبحت فيه الجزائر بعد جهد كبير تملك مئات المكتبات، بل في كل بلدية مكتبة، إضافة الى مراكز ودور الثقافة ومئات الكتب، بل آلاف الكتب والعناوين التي تصدر في العالم والتي تقتنيها المكتبة الوطنية، ناهيك عن الجامعات، حيث أضحى بكل ولاية من ولايات الوطن جامعة وفي الجامعة عدة معاهد مع عدة مكتبات، وهذا انجاز حققته الجزائر المستقلة في غضون خمسين سنة، بينما الاحتلال الذي يدعي أنه رسول حضارة لم يترك لنا إلا التخلف والجهل وأكثر من 80٪ من الأميين، فهل نذكر هذا الاحتلال بالخير، وهل نطوي الصفحة، أم أننا نقول وبكل صراحة: الاحتلال احتلال تدمير الإنسان بكل مقوماته، بل وتدمير الحضارة التي ادعاها.