تمنيت وما زلت، أن تكون لنا كغيرنا من أهل الأدب والفكر، نواد ومقاه نرتادها لكي نستريح ونتبادل فيها آخر الأنباء عما يجد في دنيا الإبداع عموما. ولكن، لات حين مناص، على حد ما جاء في المثل العربي! لكأننا خلقنا لكي ندخل بيوتنا ونقبع فيها، ولا نكاد نغادرها إلا إلى العمل أو إلى السوق أو إلى المسجد أو إلى بعض الأهل. قرأنا الشيء الكثير في الصحف المشرقية، والمصرية على وجه التحديد، عن مقهى ”ريش”، ذلك الذي كان يختلف إليه الروائي الكبير نجيب محفوظ، وعن الأحاديث التي يتبادلها أهل الأدب، من ناشئين ومخضرمين، في حضرته. وقرأنا ما أورده الأديب الراحل، أنيس منصور، عن صالون عباس محمود العقاد الذي كان يجتمع فيه الطامحون إلى دنيا الإبداع والفكر من طلاب وأدباء. وعرفنا بعض ما كان يتبادله أهل الأدب من آراء في مقهى ”الهورس شو”، أي، ”حدوة الحصان”، في شارع الحمراء، وما كان يردده أهل الفن والسينما في ذلك المقهى الواقع في قلب بيروت. ولقد رأيت بأم عيني في سبعينات القرن المنصرم، كيف كان بعض الوزراء اللبنانيين يستريحون من عناء السياسة في جنبات ذلك المقهى، لا يخشون أن تنفجر في وجوههم قنبلة، ولا أن يطلق النار عليهم أحد. وكان ذلك قبل انفجار الحرب الأهلية في هذا البلد العربي الذي بلغ قمة الحضر والرفاهية. وجلست في عدد من المقاهي في قلب مدينة ”برشلونة” الإسبانية، وخاصة منها تلك التي تحيط بشارع ”الرامبالا” الشهير. وتبادلت الحديث مع بعض الرسامين ومع بعض الشعراء بالإنجليزية وبالفرنسية، ووجدت من يفهمني وأدخل معه في حوار طويل عن جارسيا لوركا وخوان رامون خيمنيز وفيسنتي ألكسندر، وهم من كبار شعراء اللغة الإسبانية. وجلست في مقاهي باريس، في الحي اللاتيني، وفي المقهى الذي كان يجلس فيه جان بول سارتر كل صباح ليتناول قهوته ويدخن عددا من السجائر قبل أن ينطلق صوب مقر مجلته ”الأزمنة الحديثة”. كما أنني جلست في المقاهي التي تحيط بساحة مونمارتر، وتأملت الرسامين وهم يفعلون الأعاجيب على سطوح لوحاتهم. وكنت أتمنى أن أجلس في مقاهي نيويورك حيث يلتقي كبار أهل الرواية والشعر وغيرهم من الفنانين الآخرين. لكن، ما كان حظي وافرا في هذا الجانب، وإن كنت أتمنى على الدوام أن أضع قدمي في تلك الديار لكي أطلع على حقيقة أهل الأدب وهم في قلب المقاهي التي يختلفون إليها. في الجزائر، كان لنا مقهى جميل في قلب العاصمة، بالقرب من جامعة الجزائر المركزية، هو مقهى ”اللوتس” الذي كان يجلس فيه المرحوم الطاهر وطار وعدد من أهل الأدب، والزميل الأديب، الطاهر بن عيشة وغيرهما من أهل الصحافة وعشاق الفكر. وما زلت أتذكر أن هناك عددا من أهل السياسة من المشارقة كانوا يجلسون في ذلك المقهى لتبادل آخر الأخبار عما يجد في الساحة العربية. لكن، مضى ذلك الزمن، وتحول المقهى إلى مركز تجاري، لكأن البطون وحدها هي التي ينبغي أن تمتلىء على الدوام دون مراعاة لأمخاخنا وعقولنا. وطفت مرات ومرات بمقاهي مقام الشهيد: فوجدتها خالية من كل روح إبداعية. لا فنان يجلس فيها ولا أديب ولا شاعر. وسمعت الكثير من الأحاديث عن فيلا عبد اللطيف، تلك التي كان كبار الفنانين من الرسامين يقيمون بها بعض الوقت ولا يغادرها الواحد منهم إلا وقد ترك وراءه عددا من اللوحات على سبيل رد جميل الذين أفسحوا له المجال لتزجية بعض الوقت الجميل بها. هل حكم علينا بألا تكون لنا مقاه ونواد نرتادها ونستريح فيها بعض الوقت؟ الظاهر هو أننا لم ندخل بعد مرحلة التحضر في هذا الجانب. الذين يتقاذفون الكرة في الملاعب أعظم شأنا من أهل الفكر والأدب في هذا البلد، وأغرب، وأعجب ما في الأمر كله هو أن الدولة لا تلتفت إلى هذا الجانب، لكأن الأمر لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد. وفي هذه الأثناء، ينفرط عقد أهل الأدب والفكر في هذه الديار!