وجدت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، نفسها في وضع حرج بعد أن أصبحت في نظر كل العالم لا تؤتمن، وهي التي لم تجد حرجا في التجسس على حلفائها، الذين اعتقدوا أنهم في منأى عن أي خطر أمريكي عليهم. فكيف للرئيس الأمريكي أن يلتقي وجها لوجه مع أنجيلا ميركل أكبر حليف لأمريكا في الوقت الراهن أو الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، الذي ركب سفينة التصور الأمريكي للعالم وحتى قادة 35 دولة آخرين ممن وقعوا في فخ آلة التجسس الأمريكية، التي وضعت الكل في سلة واحدة ولم تر حرجا في وضع الحليف أيضا تحت رحمة "عينها السادسة"؟ وكان يمكن للرئيس الأمريكي أن يلتقي هؤلاء وكأن شيئا لم يكن ويضبط معهم تصورات سياسته وما يجب عليهم فعله لولا دخول شخص اسمه إدوارد سنودن، على خط علاقة الود "الوهمية"، وراح يفضح حقيقة نظرة أمريكا إلى الحلفاء والأعداء في آن واحد، وتأكد لهؤلاء وأولئك أن لا فرق بينهم مادامت مصلحة الولاياتالمتحدة ورغبتها في قيادة العالم، تتطلب مثل هذه الأساليب. والمؤكد أن الفضيحة التي فجّرها هذا العميل الفار هزت أيضا كيان البيت الأبيض، الذي لم يكن يتوقع مثل هذه التسريبات التي أضرت بصورة مهزوزة أصلا لدى رأي عام عالمي لا يثق في بلد أصبح القوة الأولى في العالم، ويعمل على المحافظة عليها بشتى الوسائل والطرق حتى وإن جانبت أدنى الأخلاق والتعاملات المهنية المقبولة. ولكن هل للسياسة أخلاق؟ وهل للعمل المخابراتي ود أو عاطفة؟ فالعميل يتحرك وكأنه آلة لا مشاعر ولا أحاسيس لها، المهم بالنسبة له حماية بلده والدفاع عن مصالحها والرقي بها إلى الأعلى. وعندما ندرك درجة التنافس بين القوى الكبرى الصديقة منها والعدوة، لا يعدو ما قامت به وكالة الأمن القومي الأمريكي مجرد عمل "مهني"، وأن من قاموا بعمليات التجسس هذه ورعوها فرحون بإنجازهم، ولا شيء سيجعلهم يندمون على ذلك مادامت الغاية تبرر الوسيلة، وأن الدبلوماسية يصنعها أيضا العمل المخابراتي. وهو منطق كل أجهزة المخابرات في العالم، والحروب الخفية المستعرة بينها تبقى أمرا حتميا لتحقيق المصلحة العليا؛ لأن القاعدة لديها أن الأخلاق لا تتماشى أبدا مع العمل السري، وأن القناعة المشتركة لديها أنها ليست في جمعية خيرية، ولأن ما لا تفعله أنت لا يتوانى آخرون في تنفيذه مادام ذلك يخدم نظرتهم لحماية مصالح بلدانهم. وتُعد هذه هي القاعدة التي يشترك فيها الجميع، والتي لا يُستبعد أن يلجأ إليها الرئيس الأمريكي لتبرير عمل أكبر جهاز للمخابرات في بلاده في حال زاد ضغط الحلفاء الأوروبيين عليه، وقد ينفجر صارخا: "هل أجهزتكم لا تتجسس لو كان لديها الإمكانات لفعل ذلك؟". ولذلك فإن اتفاق السلطات الألمانية والبرازيلية التي وقعت تحت العين السادسة للمخابرات الأمريكية، واللجوء إلى الأممالمتحدة لصياغة لائحة تدين ما قامت به وكالة الأمن القومي الأمريكية، يبقى مجرد مسعى لا يفيد في شيء؛ على اعتبار أن العمل المخابراتي تضبطه قواعد ميثاق عمل سرية، الكل يعمل بها، والجميع يدينها، ولكن الغاية النهائية تبقى تحصيل أكبر قدر من المعلومات حول هذا البلد وشخصياته المؤثرة وقدراته الاقتصادية والعسكرية وما إذا كان يشكل خطرا أم لا. ومن ثم فإن غيرهارد شاندلر رئيس جهاز المخابرات الألماني "بي .أن.دي" الذي توجه إلى واشنطن للقاء نظرائه الأمريكيين للحصول على تفسيرات حول ما تعرضت له المستشارة أنجيلا ميركل، لن يسمع سوى أنك جاسوس وتعلم ماذا تعني الجوسسة، فلا تحاول أن نكشف لك كنه مقاربتنا الاستعلاماتية تماما كما ترفض أنت الكشف عن طرق العمل الاستخباراتي الألماني. ولكن تحرك برلين التي أحست أن كبرياءها تم الدوس عليه في أعلى قمتها، فرضته أيضا الأحزاب السياسية الألمانية، التي رأت في ذلك إهانة للمواطن الألماني، وطالبت باجتماع طارئ للبوندستاغ للنظر في هذه الفضيحة واتخاذ الموقف المناسب. وهو ما يجعل تحرك ميركل والتعبير عن سخطها أمرا عاديا جدا؛ لأنها إن لم تفعل فإنها ستجد نفسها في قلب دوامة إعصار سياسي داخلي قد يعصف بها في أية لحظة، تماما كما هي الحال بالنسبة للرؤساء الأوروبيين الذين وقعوا ضحية أكبر عملية تجسس أمريكية عليهم.