شكل موضوع مالك بن نبي رهانا، محور الندوة الفكرية التي احتضنتها أول أمس قاعة المحاضرات بقصر الثقافة بقسنطينة من تنظيم جمعية أصدقاء المعرفة؛ بحضور وجوه فكرية زامنت حياة الراحل مالك بن نبي، ويندرج النشاط ضمن سلسلة من الأنشطة الثقافية والفكرية تحت شعار قراءات في المشاريع الفكرية العربية المعاصرة لنفض الغبار عن مفكرين بارزين؛ واستكشاف أدواء هذا المجتمع والأمة وبذلك تشخيص الداء ووضع الحلول للنهوض من هذا الركود الذي ساد المجتمعات العربية والإسلامية. ونشط المحاضرة الأولى التي كانت تحت عنوان سوسيولوجيا الثورة في مالك بن نبي، الدكتور الطاهر سعود من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة سطيف 2، صاحب كتاب التنمية والتخلف في فكر مالك بن نبي، والذي حاول استشفاف ما قدمه مالك بن نبي في معالجة ظاهرة الثورة الجزائرية، معتبرا أن ما كتبه المفكر الجزائري حول الثورة التحريرية لم يرق إلى ما كتبه حول مواضيع الحضارة والثقافة ولم يكن تأريخا للثورة الجزائرية؛ رغم اهتمامه بها وحتى أنه كان يريد حسب الدكتور الطاهر سعود، أن يكون كاتبا عاما ومؤرخا لجيش التحرير الوطني، لكن طلبه لم يلق ردا في ذلك الوقت. وحسب الدكتور سعود الطاهر، فإن ابن نبي مارس تحليلا بعديا في تناوله للثورة الجزائرية، ولم يهتم بكرونولوجيا الأحداث بقدر ما كان يتأمل في مقومات هذه الثورة؛ وذلك ما يستخلص من كتاباته، على غرار المقالات المنشورة بعنوان بين “الرشاد والتيه بجريدة الثورة الإفريقية” بين 1965 و68 وكذا القضايا الكبرى في مهب المعركة وكان المحاضر يحاول تصوير رؤية بن نبي لظاهرة الثورة، وسعى لإبراز بعض إسهامات المفكر الجزائري في دراسته لظاهرة الثورة عموما والثورة الجزائرية على الخصوص، من خلال التطرق إلى مفهوم الثورة عند بن نبي والتي هي عبارة عن عملية تغيير بطريقة هادفة ومستعجلة، حيث يرى ابن نبي أن الثورة ليست فعلا مجتمعاتيا عشوائيا لأن كل ثورة لا تحدد أهدافها في ثورة فاشلة والاستعجالية في منظوره من أهم ركائز الثورة لتجاوز عامل الزمن بإعادة ترتيب سريع لموازين بناء معين. ويرى الدكتور الطاهر سعود، أن مالك بن نبي قسم الثورة إلى ثلاث مراحل، هي مرحلة التحضير، مرحلة الإنجاز ومرحلة الحفاظ على الخط الثوري، مستلهما ذلك من عديد الثورات العالمية وعلى رأسها الثورة الفرنسية التي اندلعت سنة 1789، حيث اعتبر المحاضر أن مرحلة التحضير بالنسبة للثورة الجزائرية حسب بن نبي، كانت بفضل جهود الحركات الوطنية قبل 50 سنة من اندلاع الثورة وعلى رأسها جمعية العلماء المسلمين، حيث كان التغيير ثقافيا وفكريا قبل أن يكون سياسيا، أما مرحلة الإنجاز واندلاع الثورة التحريرية؛ فقد كانت بفضل الفلاحين بعيدا عن البروليتاريا العمالية أو انتلجنسيا النخبة المتعلمة، لأن الإيديولوجيا وقتها كانت بسيطة ملخصة في كلمة واحدة هي الاستقلال. كما يرى بن نبي حسب الدكتور الطاهر سعود أن مرحلة الحفاظ على الخط الثوري من أهم مراحل الحفاظ على مكاسب الثورة، حيث يعتبر المفكر مالك بن نبي من خلال نصوصه أن تقلبات الانتقال بعد الثورة يؤدي إلى ظهور مشكلة الصراع حول القيادة؛ وكادت الجزائر أن تفقد استقلالها بسبب الصراع الذي ظهر بين قادة الثورة مباشرة بعد الاستقلال، كما أن مشكل زرع عناصر عميلة من الأخطاء القاتلة، التي تضرب الثورات في العمق وهي آخر القنابل التي يزرعها المستعمر والتي تدنس نجاحات الثورة، من خلال دخول عملاء وحركى وتبنيهم أعمال المقاومة وهذه الظاهرة حسب ابن نبي أدت إلى انقسام دول بأكملها، كما أن هناك مسالك انحراف قد تحدث عشيّة الاستقلال والتي تكون عادة بفعل ظهور الأمراض والتصرفات الصبيانية التي تنشأ لحظة خروج المستعمر وتكون هذه التصرفات من أفراد أو مؤسسات، حيث تعمل على تعطيل أهداف الثورة وبذلك تقهر القوى الأخلاقية التي بنيت عليها الثورة وظهور الارتكاسات، الأنانية والمطالبة بالحق والقيام بالواجب. وحسب الدكتور الطاهر سعود من جامعة سطيف، فإن ابن نبي قيم نجاح أي ثورة بعاملين اثنين، الأول هو مدى المحافظة على محتواها إلى آخر الطريق والعامل الثاني بمدى تحقيق هدفها وهو تغيير الإنسان من حيث السلوك والأفكار. من جهتها تدخلت الأستاذة مريم عبادة أحد تلامذة المفكر مالك بن نبي، حيث تحدثت عن عنصر الحضارة في المجتمع ومدى تأثيره على قيمة الفرد بين الأمم، معبرة بأنه كان يضع الحضارة في مرتبة الوعد الأقصى والاقتصاد في مرتبة الوعد الأدنى، لتضيف أن تحقيق ازدهار أي مجتمع يجب أن يبنى على عنصري الاكتفاء والأمن، قبل أن تؤكد على الإخلاص التام الذي كان جوهر أي عمل لدى ابن نبي. وقدم الدكتور عبد الرزاق بلعبروس من جامعة سطيف محاضرة بعنوان التجديد الأخلاقي والإصلاح الجذري في فكر مالك بن نبي- نحو استئناف المشروع، حيث تطرق إلى النواة التي راهن عليها ابن نبي لكي يدخل الفرد المسلم من جديد في التاريخ وهي نواة مركزية سماها بالأخلاق وتجديد القيم الأخلاقية التي ترفع الفرد من مستوى الوجود الطبيعي إلى مستوى الوجود الأخلاقي، من خلال تجديد الصلة بالله بعيدا عن محاولات حركات الأصلاح الفكرية؛ التي تبناها المفكرون على غرار المفكر المصري محمد عبدو، وقد كانت محل انتقاد مالك بن نبي لأنها تتسم بالمنهج الكلامي وتخاطب الفرد المسلم في قضايا وجود الله لا قضايا الصلة بالله، حيث تحول القيم إلى سلوك عملي على أرض الواقع، وبذلك يكون الإصلاح تجديدا جذريا لا شكليا، يوقظ الدافع الداخلي للشخص لرؤية القيم من جديد وينقل الفرد من مرحلة الجمود إلى مرحلة الحركة. وقال الدكتور عبدالرزاق بلعبروس إننا في حاجة إلى التفكير مع ابن نبي لا معرفته فقط، وطرح مشكلات عصرنا على بُنات أفكاره وإعادة نظرته من جديد وهي النظرة التي تعتبر أن المسلم لم يتخل عن عقيدته وظل متدينا إلا أن الخلل كان في العقيدة التي تخلت عن فعاليتها وتحمسها. كما تحدث الدكتور بلعبورس عن أهمية العلوم الإنسانية والتربوية في منهج ابن نبي وكذا العلم كمبدأ للعمل، والعمل يكون غاية أو بمفهوم العلم المستعمل حسب أطروحة أبي حامد الغزالي. وعرفت الندوة العديد من المداخلات القيمة من طرف أساتذة ودكاترة في مقدمتهم الدكتور عبد اللطيف عبادة، حيث أراد الحضور الوصول بالندوة إلى الجانب التطبيقي لا النظري من خلال البحث عن الحلول الملموسة لبداية العمل على تجسيد أفكار مالك بن نبي والتي تبقى صالحة لوقتنا الحاضر.