قبل خمسين عاما - وكنت يومها صغيرا حدثا - قرأت كتابا تاريخيا عن حنبعل، بقلم الباحث اللبناني جورج مصروعة. واستهجنت ما جاء فيه من أن هذا القائد العبقري كلما ربح معركة من المعارك ضد الإمبراطورية الرومانية وجد نفسه مضطرا لدفع الضريبة والجزية بدلا من أن يحدث العكس؛ أي أن يخضع المنهزم لشروط المنتصر؛ أي الاضطلاع بالتكاليف، أيّاً ما كانت هذه التكاليف. لم أستسغ أن يعمل الكاتب على تقديم وجه لا نعرفه عن حنبعل، وأن يعكس الآية، ويدّعي أن هذا القائد قد انتصر غير ما مرة ودفع الضريبة غير ما مرة أيضا؛ خلافا لما هو معمول به في التاريخ البشري منذ قديم الزمن، ولما هو مأخوذ به في الأعراف الدولية قديما وحديثا. وأقرأ اليوم بعد هذه العقود كلها، كتابا تاريخيا بالإنجليزية عن حنبعل، وأتفرج على فيلم عن هذا القائد الفذ، فتفاجئني صورة أخرى لا يمكن أن يتقبلها عقلي ولا عقول المتابعين للأحداث والوقائع التاريخية. جاء في هذا الفيلم أن حنبعل وقف عند أبواب روما العتيدة، وضرب عليها الحصار وشدده، لكنه امتنع عن دك أسوارها؛ لأنه وقع في غرام فتاة رومانية! أوليس ذلك بالغريب حقا؟! وأقرأ في بعض كتب التاريخ أن حنبعل هذا سبق له أن قدّم نذرا بمحاربة روما ومعاداتها على مدى الزمن، وفعل ذلك بحضور والده ”هاميلكار” في مدينة ”برقة” الليبية. وخاض حروبه بالفعل ضد الإمبراطورية الرومانية في شمال إفريقيا وفي أرض إسبانيا، وزحف على عاصمتها على رأس جيش جرارا، تتقدمه مجموعة من الفيلة التي كان بعض المحاربين القدماء يستخدمونها في بلاد فارس وفي الحبشة وغيرهما. فهل يُعقل أن يكون حنبعل قد أحجم عن تدمير روما بسبب امرأة؟ وهل يُعقل أن يكون هذا القائد القرطاجني العظيم، قد دفع الجزية تلو الجزية إثر انتصاراته في مختلف الحروب على روما؟ الرومانسيات التي عهدناها لدى بعض المؤرخين الغربيين منذ عهد الكاتب الإسكتلندي والتر سكوت، تشوّه وجه الحقيقة التاريخية من أجل إشباع بعض الغرائز الدونية التي يحبها بعض القراء. وعبقرية حنبعل الحربية لا يمكن أن تركع أمام امرأة رومانية هي من بنات أعدائه؛ فمن نصدّق يا ترى، من المؤرخين وبعض كتّاب الأدب الروائي؟ الأفضل لنا أن نكل الأمر إلى المنطق؛ وأعني به ذلك الذي لا يتقبل الخرافات ولا يستسيغها، لا في الأدب الروائي ولا في نطاق الحقيقة التاريخية.