قبل ما يقارب المائة عام، وفد الفن السينمائي علينا عن طريق الاستعمار الفرنسي، ولم نستفد منه إلا قليلا. وجاءتنا عبره أفكار غربية، من غثّة وسمينة، وعششت في أمخاخنا. وجاءنا التلفزيون بعد ذلك، أي بعيد الحرب العالمية الثانية، وكان تلفزيونا موجها لأبناء الاستعمار. ودخل هذا التلفزيون بيوت البعض منا في كبريات المدن. ومعه حلّت بديارنا أفكار جديدة لا نكاد نعرف عنها شيئا فطاشت عقول البعض منا من الانبهار وركحت عقول قليلة أخرى. وبين هذا وذاك، هبطت الإذاعة من سمائها واستقرت بيننا، وحمل تيارها الجارف العديد من أشكال الأغاني والتمثيليات والأخبار والتعليقات وتقبّلناها عن رضا أو على مضض. وهاهي شبكة الأنترنت تريد أن تحل محل تلك المبتدعات العلمية في الكثير من الدور الجزائرية. وهي أيضا مبتدعات تحمل في أطوائها ما قد يرضينا وما قد ننفر منه، رؤية وسماعا. من الصحيح أننا ربحنا الشيء الكثير باستخدام هذه الشبكة بالرغم من أننا وقعنا في مطبّاتها وتعاريجها التي تفضي إلى تعاريج أخرى وهلم جرا مثلما يعلم الجميع. وصرنا نوظف نفس السرعة أو نكاد، أي تلك التي يستخدمها مبتدعو هذا الشكل العجيب من الاتصال في العالم الغربي. وبتعبير آخر، صارت شبكة الأنترنت بالرغم من محدودية انتشارها بيننا في الجزائر تدركنا، وتحاول إدراك أولئك الذين يتحصّنون في بروج مشيدة كما يقول التعبير القرآني عن الموت. وهاهي اليوم تجعل منا أفرادا في هذه القرية الإلكترونية التي تحدث عنها العالم الكندي مارشال ماكلوهان، قبل ستين عاما. أدركنا العالم الغربي، أو على الأصح، دخلت الثقافة العالمية ديارنا دون استئذان في الكثير من الأحيان، وما زالت مبتدعاتها تسيل لعاب الكثيرين من المترددين ومن الواقفين عند أبوابها. لن نتساءل عن تلك المبتدعات كلها وعمّا جاءت به في تضاعيفها من بروتينات ومن جراثيم في آن واحد، ولكن، في مقابل ذلك، يتعين علينا أن نتساءل عن طريقة توظيفها في حياتنا، وأن نقلع عن التفكير في مواجهتها لأنها جزء من العلم، والعلم موجود في كل مكان، وإنما استخدامه هو الذي ينبغي أن يكون محل تفكير دائم فيما بيننا. إننا إلى حد الآن لم نقرأ في صحيفة عربية، ولم نشاهد في برنامج تلفزيوني جزائري أو عربي ندوات علمية عن شبكة الأنترنت وعن كيفية التعامل مع منجزاتها فيما بيننا. إذا كنا نأكل الكاممبير الفرنسي والتفاح الإيطالي والأرجنتيني، والحلويات الإنجليزية ونمضغ الشوينغوم الأمريكي، فذلك أمر قد ينفعنا أكثر مما يضرنا. ولكننا حين نستهلك ما يهبط علينا من شبكة الأنترنت، وندخل القرية الإلكترونية العالمية مكتوفي الأيادي، منبهرين بما نراه وبما نسمعه، فهنا يكمن الخطر كل الخطر. قد تزول حدودنا، وقد تضيع هوياتنا أو جزء من هوياتنا في أثناء ذلك، وقد ندخل في صراع فيما بيننا بسبب ما يجيء في هذا البرنامج الفكري أو العلمي، أو في ذلك الفيلم السينمائي أو في تلك الضجة الاعلامية التي يتعمّد إحداثها عدد من المهووسين مثلما هو الشأن في أيامنا هذه على صفحات الأنترنت. وبطبيعة الحال، نحن لا نستطيع أن نمنع أو نقنن ما يهبط علينا من هذه الشبكة العجيبة لأننا نوجد خارجها، ولا نشارك في صناعتها وفي ضخها بالمعلومات التي تفيدنا وتفيد الآخرين، ويبدو أن مثل هذا الوضع الشاذ يروق الغربيين جميعا، وهم لا يعملون أبدا على تغييره لأنه يسمح لهم بالدخول إلى عقولنا على هواهم مثلما فعلوا عبر الإذاعة والسينما والتلفزيون في العقود الماضية. المسألة تتلخص في ضرورة صياغة برامج علمية تكوينية في الثانويات، وفي الجامعات من أجل بلوغ درجة منطقية من التعامل مع منجزات الأنترنت. فعلى سبيل المثال، هل تقبل الجامعة عندنا أن يوظف طالب الليسانس أو الماجستير أو الدكتوراه معلومات من الأنترنت؟ العهد بالجامعة هو أنها لا تتقبّل إلا الأبحاث المطبوعة المحكمة المنشورة ضمن كتب، لأن هذه المراجع تشير إلى الناشر وتاريخ النشر، والمقطع والسطر والصفحة وما إليها من ضرورات البحث العلمي الرصين. فهل فعلنا شيئا في هذا الشأن على الصعيد الجامعي؟ هذا مثل بسيط جدا، لكنه يكشف بالرغم من عمق غوره عن عجزنا في مضمار التعامل مع شبكة الأنترنت على المستوى الجامعي. هل تفكر وزارة التربية عندنا في هذا الموضوع؟ وهل تفكر وزارة التعليم العالي والجامعات في نفس الأمر؟ وهل نمضي قدما في استخدام الأنترنت كيفما اتفق، ونقبل بوضعية الفرد الجاهل الذي يدخل القرية الإلكترونية العالمية فاغرا فاه من الدهشة، مفتوح العينين على سعتهما من الانبهار؟ وهل يحق لنا بعد ذلك أن نتحدث في خطابنا السياسي، وفي بعض الكلام الرسمي عن الغزو الثقافي مثلما فعلنا ذلك منذ نهايات الحرب العالمية الثانية؟ الأمر بأيدينا على الرغم من صعوبته ومن تعاريجه التي تفضي إلى المجهول بعد المجهول، ولكن، فليكن لنا في هذه المرة زمام المبادرة حتى لا تهب ريح عاتية جديدة وتجرفنا من هذا الوجود كله على غرار ما فعلته رياح الحضارات السابقة ببعض الشعوب والأمم التي رضيت بالعيش الذليل.