يحيي الشعب الجزائري اليوم الذكرى ال54 لإضراب الطلبة الجزائريين، التي تخلد واحدة من الملاحم الكبرى، التي جسد من خلالها الشباب الجزائري وعيه الكبير بمسؤولياته التاريخية وتعلقه بقيم ثورة نوفمبر الخالدة، معلنا تلبيته لنداء الجهاد بتحويل أقلامه إلى مدافع ورشاشات، قناعة منه بأنه لا قيمة لشهادة علمية تخدم مستعمرا غاشما، لطالما اعتبرهم مجرد أهالي. هذه القناعة التي عبر عنها الطلبة الجزائريون في العبارة الشهيرة التي حملها بيان الإضراب والقائلة: ''الشهادات لن تصنع منا أحسن الجثث''، وجدت صداها الكبير في أوساط مختلف فئات الطلبة والثانويين الذين غادروا مقاعد الدراسة بأعداد كبيرة، مسجلين بذلك مساهمة النخبة الجزائرية في كفاح الشعب الجزائري الموحد من أجل استرجاع الحرية ومؤكدين للعالم أجمع شعبية وشمولية الثورة التحريرية المجيدة.ووجدت جبهة التحرير الوطني في إضراب الطلبة والثانويين في 19 ماي 1956 دعما كبيرا لعملها الثوري وإصرارها على تصعيد الكفاح المسلح من أجل الحرية والاستقلال، لا سيما وأن انتفاضة الطلبة الجزائريين الذين وقعوا بدمائهم الزكية على سجل الثورة التحريرية، وضحوا بمستقبلهم الدراسي محولين أقلامهم إلى مدافع ورشاشات ضد الاستعمار الغاشم، أكدت ثقة الشعب الجزائري بكل شرائحه في قيادة ثورته، وفندت في المقابل أكاذيب المستعمر وادعاءاته بأن ''الثورة لا وجود لها في الواقع وأن ما يحدث لا يعدو أن يكون أعمال شغب وإرهاب تقوده بعض المجموعات الطائشة وقطاع الطرق''. ليشكل بذلك إضراب الطلاب والثانويين ردا سريعا وقاسيا على فرنسا الاستعمارية، وإعلانا رسميا عن التحاق هذه الفئة الوطنية بصفوف الثوار. كما ساهم هؤلاء الشباب بفضل تكوينهم الفكري والعلمي في تحويل حرب الجزائر من أجل الاستقلال السياسي إلى ثورة وطنية حقيقية، تصبو إلى تحديث المجتمع الجزائري تحديثا تاما وتهيئته لاستيعاب روح العصر بعد استرجاع حريته المسلوبة. وقد صنف العديد من المؤرخين الحدث التاريخي الذي وقعه الطلبة الجزائريون في 19 ماي 1956 بإعلانهم الإضراب عن الدراسة والتحاقهم بصفوف الثوار، في المرتبة الثالثة من حيث أهمية المحطات التاريخية التي عرفتها مسيرة الثورة التحريرية الجزائرية بعد الفاتح نوفمبر 1954 وأحداث 20 أوت ,1955 خاصة وأن ذلك الحدث أعطى نفسا جديدا للثورة، وخيب آمال فرنسا التي كانت تراهن على كسب النخبة الجزائرية، لتلعب دور الداعي للاندماج. وامتدت الانتفاضة الطلابية التي انطلقت بعيدا عن أية وصاية سياسية، من مدرجات الجامعات إلى مقاعد الثانويات والزوايا، وعكست التظاهرات التي شهدها ذلك اليوم المشهود انصهار مختلف شرائح المجتمع الجزائري في الكفاح المسلح من أجل الاستقلال، وأخلطت حسابات المستعمر الفرنسي الذي لم يفهم هذا التطور النوعي للثورة التحريرية في الوقت الذي كان فيه إعلامه المضلل يروج لفكرة ''قطاع الطرق والمتمردين على الدولة الفرنسية''. وفي المقابل عززت ملحمة الطلبة والثانويين موقع قيادة الثورة المجيدة وفتحت الباب على مصراعيه لأفواج جديدة من المناضلين الذين أعلنوا انخراطهم في الكفاح من أجل الاستقلال مفضلين الشهادة في ميدان الشرف على الشهادات الدراسية التي لن تجديهم نفعا، ومدعمين بذلك صفوف الكفاح بطبقة مثقفة لعبت دورا أساسيا في إيصال صوت الجزائر إلى المحافل الدولية، حيث ساهم نشاطهم كممثلين للطلبة الجزائريين في منظمات دولية وإقليمية، في كسب تعاطف ومساندة نظرائهم في العالم للقضية الجزائرية، ومن ثمة كسب المزيد من الاعتراف الدولي بثورة نوفمبر الغرة. كما شكل خيار الطلبة الاستراتيجي بالالتحاق بالثورة إيذانا بمرحلة جديدة، ومحطة تحول هامة في مسيرة الثورة المباركة، حيث أعطاها نفسا قويا وعزز تأطيرها وتنظيمها، وتوجها بنصر مبين تحقق للشعب الجزائري بعد ست سنوات من تلك الانتفاضة الخالدة، لتواصل الفئة الطلابية بعد الاستقلال جهودها من أجل تشييد وبناء الجزائر ومحو آثار التخلف التي خلفها الاستعمار الفرنسي، حتى أصبحت الجزائر تضم عشرات الآلاف من الإطارات والعديد من الأدمغة التي تحتل مكانة مرموقة في الخارج، فيما التزمت الدولة الجزائرية بعد الاستقلال بتنفيذ برامج طموحة قائمة على أساس ضمان التعليم المجاني لكل أبناء الجزائر، إلى أن أصبحت جامعاتنا اليوم تحتضن أزيد من مليون طالب، وأولويات عمل الدولة موجهة لترقية أداء كل القطاعات التي تعنى بالشباب ومنها رفع تحدي الجامعة من خلال تحسين مناهج التعليم وتوسيع الهياكل والمرافق الملحقة، تحضيرا لاستقبال قرابة المليوني طالب في غضون .2015 كما تعمل الدولة جاهدة على توفير مناصب العمل لفائدة الطلبة المتخرجين من الجامعات، من خلال مختلف الآليات التي تمكنهم من إقامة المشاريع وإنشاء مؤسسات مصغرة، وضمان الإدماج المهني والاجتماعي. ليتضح بذلك بأن تضحيات هؤلاء الطلبة الشباب الذين ثاروا قبل 54 عاما في وجه المستعمر الفرنسي لم تذهب سدى، وأن مفعولها كان ضروريا لاسترجاع الاستقلال الوطني وبث الإرادة في صفوف الشعب الجزائري من أجل إشاعة التعليم وتحصيل المعارف العلمية والتقنية، التي تسمح بمواجهة متطلبات عالم لا يرحم وميزته التنافسية وجودة الأداء.