إنّ الحسّ الفنّيّ لدى الناقد يجب أن يرتقِيَ إلى حسّ الفنّان المبدع، وذلك من خلال وعْيٍ دائمٍ، وانطلاقاً من قراءة عمل، أو مشاهدته أو سماعه... لكي يستطيع أن يسلّط أضواءه النقديّة عليه، ويتفرّس فيه، مخضعاً إيّاه لمعايير الجمال وعلم النفس. وإنّه لا يمكننا أن نلقي أضواء شديدة الإنارة على العمل الإبداعيّ من دون أن نواجه كلّ الحقائق التي أحاطت بميلاد هذا العمل. خلاصة القول إنّ على الناقد أن يعِيَ مسؤولياته كاملة تجاه جمهوره، وأن يعرف أنّ الفنّ ليس تجربة كيميائيّة يُجْريها في مخبر فتتولّد عنها تفاعلات كيميائيّة أخرى...هي شروط يدركها الناقد عبد المالك مرتاض أيما إدراك، لذلك حقق نجاحات جمة في تجربته النقدية، وقد بدت أكثر جلاء في مسابقة أمير الشعراء التي ذاع صيتها على قناة أبو ظبي الفضائية. أجرى الحوار: رابح بوكريش أعتقد يا دكتور عبد المالك أنّك استعملتَ دراستَك للنقد الأدبيّ في عملك ضمن لجنة التحكيم، في مسابقة "أمير الشعراء" فهل هذا صحيح؟ أعتقد أنّ أيّ ناقدٍ حين يعرض لعمل أدبيّ ما بالقراءة النقديّة، أو حتّى القراءة التعريفيّة، وخصوصاً إذا كانت المدّة المخصّصة له على الهواء لا تزيد عن أربعين ثانية، لا بدّ مِن أن يصدر عن معارفه النقديّة على نحو أو على آخر، ولكنْ عليه أن يكيّف تدخُّلَه مع معطيات الظروف الخاصّة. والحقّ أنّ طبيعة التدخّل النقديّ في مسابقة أمير الشعراء أسالتْ كثيراً من الحبر في المجلاّت والدوريات الأدبيّة المتخصصة، بالمشرق العربيّ؛ ذلك بأنّ إحساس الناقد وهو يخاطب الملايين، وأحياناً عشرات الملايين، لا بدّ مِن أنّه يَحْمِله على التفكير في العدد الهائل من المشاهدين الذين يشاهدونه، وأغلبُهم متوسطُو الثقافةِ... فمثل هذا الأمر يجب أن يَضطَرَّ الناقدَ إلى التبسيط الشديد حتّى يتابعَه العدد الأكبرُ من المشاهدين، غير أنّ ذلك لا يعني التفريطَ في ذات النقد من حيث هو معارف نظريّة تنهض على خلفيات فلسفيّة وجماليّة تنير النّصّ وتؤوّل أبعاده الفنيّة لتقدّم قراءة نقديّة له، ولو مقتضبة عارضة... وَطَوال تدخّلاتنا في المسابقة كانت المعادلة تقوم على هذين الشِّقّين الاثنين: فلا نحن نُهْمل جانب الجمهور الغفير المتتبّع للمسابقة فنتقعّر ونتَفَيْهَق فنوشك أنّ ننفّر المشاهدين تنفيراً، ولا نحن نفرّط في ذات النقد فنبتذله ابتذالاً منحطّاً... والحقّ أنّ من الصعب أن نزعم أّنا كنّا نقدّم قراءات نقديّة بكلّ ما تحمل العبارة من معنى الدقّة والصرامة، ولكنّا كنّا نحاول تقديم قراءة تنويريّة مبسّطة لنساعد بها المشاهد على فهم النّصّ المطروح للمسابقة ليس غير... عند ما اقترحتْ لجنة التحكيم إضافة فقرة الشعر الارتجاليّ كنتَ أنت معارضاً لذلك، ثمّ عندما لاحظت ما جرى على خشبة المسرح، قلت علانيةً: إنّك كنت على خطإ، كيف كان ذلك؟ يقول الأستاذ مولود قاسم: "الارتجال، يقتل الرجال"! وانطلاقاً من هذه المقولة خشِيتُ على الشعراء المتسابقين أن يُرْتَجَ عليهم، ومِن ثَمّ خشيت أن تتعرّض المسابقة لامتحانٍ عسير قد لا يحمَده المشاهدون... ونتيجة لذلك، فقد وقع اختصار الارتجال النسبيّ (تحضير أبيات لمدة دقائق قليلة خارج خشبة المسرح قبل إلقائها على الهواء) إلى ثلاثة أبياتٍ أو نحوها، في حين وقع اختصار الارتجال الفوريّ، أي الارتجال الحقيقيّ، من بيتين كان اقترحهما الدكتور علي بن تميم، إلى بيت واحدٍ فقط، وهو ما كان. وقد نجح الشعراء إلى حدّ ما في مواجهة الامتحان العسير، أي ارتجال بيتٍ على الهواء أمام الملايين... وقد تدارستُ والدكتور علي بن تميم، والأستاذ نايف الرشدان، وهما شاعران، إمكان هذا الارتجال، فكانا يرتجلان بيتاً واحداً على غرار بيتٍ شهير لأبي نواس، أو لأبي الطيب المتنبي، مثلاً، فانتهينا إلى أنّ بيتاً واحداً يمكن ارتجاله بسهولة، أو بسهولة نسبيّة، ولكنّ ارتجال بيتين أو أكثر قد يعسر إلاّ على الشعراء الكبار الذين تعوّدوا على مثل هذه التجارب التي تحتاج إلى سرعة البديهة، والتحكّم العالي في اللّغة الشعريّة. يضاف إلى ذلك صعوبة المواجهة، واعتبار الإرسال التلفزيونيّ على الهواء... هل يمكن لأديبنا الكبير أن يقارن بين برنامج "أمير الشعراء" خلال الموسم الأوّل، وموسم هذه السنة؟ لم يختلف الموسم الثاني عن الموسم الأوّل كثيراً، إلاّ ما قيل من أنّ الموسم الأوّل تميّز بمشاركة أسماء لشعراء معروفين، في حين تميّز الموسم الثاني بأشعار شعراء لم يكونوا معروفين من قبل... والحقّ أنّ هذه المسابقة هي فرصة عظيمة للتعريف بالشعراء الشباب وإتاحة النجوميّة لهم، فمَن كان يعرف تميم البرغوثي قبل مشاركته خلال الموسم الماضي فأمسى نجماً شعريّاً ساطعاً، تخطب ودّه أكبر الفضائيات العربيّة؟ ومن كان يعرف خالدية جاب اللّه، مثلاً، قبل ظهورها هذا الموسم، فأمسى اسمها يدور على كلّ لسان؟ إنّ هذا البرنامج، بالإضافة إلى أنّه يكرّم الشعراء الشباب تكريماً ماديا مغريا، يعرّف بهم، ويتيح لهم المجال الواسع الذي يغتدي مضطَرَباً لهم يركضون في كلّ متَّجَهَاته ويتبنَّكون. ومما يتميّز به برنامج هذا العام إحداثُ الفِقرة الارتجاليّة القاسية التي بقدر ما هي ممتعة للمشاهد، هي شديدة الإزعاج بالقياس إلى الشاعر المتسابق الذي إن خانتْه البديهةُ، وهو يقوم على الهواء، سيكون ذلك عليه وبالاً وخِيماً!... ما هي المدّة التي استغرقتْها المسابقة؟ وما هي الصعوبات التي واجهت اللجنة؟ ما لا يعرفه كثير من القراء أنّ لجنة التحكيم، بعد أن تقرأ النصوص الشعريّة المكتوبة، وهي بأعداد هائلة من الأقطار العربيّة المختلفة، تختار قريباً من ثلاثمائة شاعرٍ تقابلهم بالتصوير التلفزيوني، غير المباشر، فيستغرق ذلك زهاء عشرة أيّام، وما يقرب من مائة ساعة من التصوير الذي يختار المخرج منه ثلاث حلقات فقط، كلّ حلقة تدوم زهاء ساعة. ثمّ يخضع الشعراء المتسابقون الذين اختِيروا في المقابلات إلى دراسة اللّجنة العليا التي تختار خمسة وثلاثين هم الذين يكونون الرافد الشعريّ الذي يمتدّ على عشرة أسابيع، في عشرِ حلقات مباشرة... وأمّا الصعوبات التي تساور أعمال لجنة التحكيم، فهي مما قد يستطيع القارئ المستنير تخيُّلَه، ذلك بأنّ كلّ حكَمٍ، ابتداءً من حكَمٍ في مقابلة لكرة القدم إلى حكم في مسابقة نوبل...، لا يسلَم من النقد والاعتراض، وفي بعض الأطوار الضغوط النفسيّة وغير النفسيّة، وربما الشتم والتقريع في مواقع النيت، وأعمدة الصحف... وكثيراً ما ينساق المشاهد وراء نصٍّ شعريّ يحسن صاحبُه الإلقاء المسرحيّ، ويجنح في كتابته للمباشرة التي تتيح له فهمَه بسهولة... في حين ينصبّ عمل الناقد الْحَكَم على قضايا فنّيّة أخرى، مناقضة لذلك تماماً... ولذلك كثيراً ما يعترض المشاهدون على تأهيل شاعرٍ أهّلتْه لجنة التحكيم... وقد تلقّى أعضاء لجنة التحكيم من الشتم في مواقع الشبكات العنكبوتيّة ما يهُدّ الجبال... فالتعصّب والشوفينيّة يطغيان على كثير من الذين ينتصرون لشاعر قطرهم على غيره، ويرَونه هو الأشعرَ والأفحَلَ حتى لو كان مجرّدَ شُعْرورٍ في الشَّعارير! وأيّاً ما يكن الشأن، فقد كانت مسابقة "أمير الشعراء" تجربة بديعة وغنيّة ومتفرّدة لم يعرف الإعلام الثقافيّ لها مثيلاً في التاريخ. وأن تنقُد نصّاَ شعريّاً وأنت في مكتبتك وتراجع ما كتبت، وتتوقّف عن الكتابة إذا أحسستَ بالتعب والْبَرَمِ، غير أنّ تقدّم حُكْما نقديّاً في مثل هذا النصّ ارتجالاً، وفي مدّة لا تجاوز الأربعين ثانية، وعلى الهواء، وأنت تخاطب عشرات الملايين من المشاهدين في أصقاع الأرض... ويبدو أنّ هذه التجربة ستتطوّر خلال الموسم الثالث إلى نحو الأفضل... كيف كانت المشاركة الجزائرية في مسابقة "أمير الشعراء"؟ وهل كانت في المستوى المطلوب؟ لاحظْنا أنّ الموسم الأوّل لهذه المسابقة لم تشارك فيها إلاّ شاعرة جزائريّة واحدةٌ شابّة هي حنين عمر، وقد بلغت فيها مبلغاً مشرّفاً، وتركت انطباعاً طيّباً عن مستوى الشعراء الجزائريين الشباب. وأمّا بالقياس إلى هذه السنة فقد عرفت هذه المسابقة الكبيرة حضوراً جزائريّاً متميّزاً حيث تأهّل لمرحلة "الخمسة والثلاثين"، وهي المرحلة التي تتيح للشعراء أن يُلْقوا نصوصَهم الشعريّة على الهواء (تبثّ البرنامجَ: قناة أبو ظبي، وقناة أمير الشعراء، وإحدى إذاعات أبو ظبي) في مسرح شاطئ الراحة، أقول: تأهّل أربعةُ شعراءَ: شاعرانِ، وشاعرتان. وذلك لم يحدُث حتّى للشعراء العراقيّين والسوريّين والمصريين الذين يشاركون، في مألوف العادة، بأعداد من الشعراء أكثر، وبمستويات شعريّة أرفع... وقد بلغت خالدية جاب اللّه المرحلةَ النهائيّة، وكادت تحقّق المفاجأة السارّة لسمعة الشعر الجزائريّ لو وجدتْ من يساندها بشيء من التصويت الذي هو ثقافة غائبة من سلوك الجزائريّين، فيما يبدو. وعلى أنّ رابح ظريف، ومثله شفيقة وعيل، تركا انطباعاً مغموراً بالإعجاب، وكان يمكن أن يبلغا مرحلة متقدّمة جدّاً في هذه المسابقة... وإنّي أدعو الشعراء الشباب، بهذه المناسبة التي أتاحتْها لي جريدة "المستقبل" الغرّاء، ومِمّن أعمارهم دون الخامسة والأربعين، أن يتهيّؤوا منذ الآن لخوض غمار تلك المسابقة الشرسة التي ستتيح لهم، ولأكرر ذلك، المجدَ الإعلاميّ فيشتهرون، والمجد الماليّ فيُثْرُون. وليس كمِثل ذلك في الحياة شيءٌ. الموريتاني الفائز بالجائزة الأولى هل هو فعلاً يستحقّها؟ أو هناك شعراء أكثرُ استحقاقاً منه لها؟ حين يدخل التصويت، ويقع الاحتكام إلى الجماهير، لا ينبغي أن ننتظر أن يفوز أفضل الشعراء فنّيّاً وتصويريّاً وجماليّاً، أي أكثرُهم قدرةً على تدبيج الشعر تدبيجاً، كما لا ينبغي أن ننتظر أن يفوز أفضل شخصٍ في بلديّة من البلديّات حيث تتدخّل العروشيّة، والعصبيّة، واعتبارات أخرى. وذلك ما حدث في أمير الشعراء حيث إنّ لجنة التحكيم تمنح نصف العلامات، والنصف الآخر يأتي عن طريق التصويت. ولما كان الشعب الموريتاني يهوَى الشعرَ ويشجعه إلى درجة أنّ أيّ شعبٍ آخرَ في الكون لا يستطيع أن ينافسه في هذا السلوك، بالإضافة إلى تدخّل وزارة الثقافة الموريتانيّة في تشجيع التصويت فقد كان محمد بمبا أكثر الشعراء الخمسة الذين بلغوا المرحلة النهائيّة نيلاً للأصوات، بل كان متقدما عليهم جدّاً فيما سمعت حيث فاز بأكثر من خمسة وسبعين بالمائة، في حين لم يفز الشاعر الثاني إلاّ بخمسة ونصف في المائة، وكان موريتانيّاً أيضاً! ولولا ضعف العلامات التي نالها هذا من لجنة التحكيم لكان الشاعر الثاني موريتانيّاً أيضاً. لقد تحدّث الناس كثيراً عن سلاح التصويت الذي هو ذو حدّين، فهو بمقدار ما يجعل المشاهدين يتتبّعون المسابقة ويُسْهمون فيها، ويُبدون آراءهم في أشعار الشعراء المتسابقين، وهذا يُفضي إلى تربية الذوق الشعريّ لدى الجماهير العربيّة المتابعة للبرنامج، فإنّه قد يجعل الفائز بالإمارة غير الشاعر المفروض أن يفوزَ بها، من الوجهة الفنّيّة... وعلى أنّي أهنّئ الشعب الموريتانيّ الذي يستحقّ الفوز بإمارة الشعراء بفضل تشجيعاته وحضوره المكثّف في قاعة مسرح شاطئ الراحة بأبي ظبي، بالإضافة إلى متابعة الرسميّين في السفارة الموريتانيّة لوقائع البرنامج. وبالمناسبة فقد كان القناصلة يتابعون شأن شعراء بلدانهم المتسابقين مثل القُنْصُلة الأردنيّة، والقنصل المصريّ، والقنصل الموريتانيّ، إلاّ ما كان من ملحقنا الثقافيّ فإنّا لم نرَ له وجهاً، ولم نسمعْ له حِسّاً، وكان الشعراء الجزائريّون في مسرح شاطئ الراحة الشهير كأنّهم أيتام!... نترك جائزة أمير الشعراء ونتحدث عن شهر رمضان الكريم: ما يفعل أديبنا بعد المغرب؟... إنّي لا أكاد أفعل شيئاً ذا بالٍ في هذا الشهر خارج العبادات المألوفة مثل صلاة التراويح، وتلاوة القرآن، ومطالعة بعض الأمهات الدينيّة ككتب التفسير وكتب صحاح الحديث، بالإضافة إلى حفظ بعض الشواهد الشعريّة والنثريّة من العربيّة العالية، والانهماك في تدقيق بعض الألفاظ التي يكثر فيها الخطأ بين كتّاب العصر، حتّى لا أرتكبَها لقرّائي فآثَمَ مرّتين اثنتين: حين أُوذِي العربيّةَ بالعُثُوِّ فيها فساداً؛ وحين يعتقدون أنّي على صواب في استعمالي فيقلّدون خطئي الذي أتحمّل، حينئذ، وِزْرَه الأخلاقيّ. كذلك أنظر أنا إلى ارتكاب الخطإ في العربيّة... وعلى أنّي أظلّ أثناء النهار جائعاً جدّاً، وأبيتُ أثناء الليل شبعانَ جدّاً، وبين ذلك يقلّ نشاطي الفكريّ فأخمل وأكسل! والحقّ أنّنا، نحن المسلمين، خرجْنا عن نهج السنة المحمّديّة بما نبالغ في شهر رمضان من تناوُلٍ للأطعمة والأشربة الكثيرة التي نصفّفها على مائدة رمضان تصفيفاً لا يخلو من مُغالاة ومُباهاة، فنوشك أن نصنَّف في طبقة المسرفين!... ولو استطعنا أن نقتصر على الضروريّ وحدَه من الطعام، وأن لا نبالغ في السهرات التي قد تستمر إلى الفجر عبثاً، لاستحال شهر رمضان المعظم إلى أكثر الشهور إنتاجاً ونشاطاً: عبادةً وعملاً معاً. ولكن مَن يستطيع أن يزعم لآخرين أنّه، هو، بمنْأىً عن مَذمَّة الشَّرَهِ والْميل إلى الإسراف؟... ما هي أنواع المأكولات المفضَّلة لديكم في هذا الشهر الكريم؟ لكل جهة من جهات القطر الجزائريّ المترامي الأطرافِ عادةٌ غذائيّة تندرج في أدبيّات المائدة الرمضانيّة الجزائريّة المتفرّدة. ونحسب أنّ الشعب الجزائريّ يتميّز، في شهر رمضان، بالإكثار من الإنفاق، والمبالغة في تلذيذ الطعام الرمضانيّ على نحو مثير. ولذلك نجد كلّ جهة تختصّ بلونٍ من الطعام فتركّز عليه دون سواه، فأهل الوسط يركّزون على الشربة البيضاء والسفيريّة والمثوّم مع الطاجين الحلو الذي هو وجبة عامّة، في الحقيقة، في كثير من أرجاء الجزائر، وأهل الشرق يركّزون على الجاري مع البخسيس والشخشوخة، في حين يركّز أهل الجنوب على شربة دشيش الشعير اللذيذة المفيدة صحيّاً وغذائيّاً معاً، من حيث يركّز أهل الغرب على الحريرة والطاجين المحمّر بالزيتون أو البرقوق. وأمّ هشام تحاول أن تُرضِيَ حماقاتي في كلّ إفطار بتحضير ضرْب بعينه من هذه الشُّرَبِ الجزائريّة اللذيذة إمعاناً في التنويع، ورغبةً في عدم التركيز على لون واحد من الطعام يوميّاً. ولا أحبّ من كلّ أطعمة رمضان إلاّ ما كان خالياً من الدهون والشحوم والزيوت والْحَرَافة المفرطة. وقهوتي الرمضانيّة من البنّ اليمنيّ الذي يوافيني به كلّ سنة الصديق الشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح من صنعاء، وقد زرت هذه السنةَ صنعاء، انطلاقاً من أبو ظبي، في بداية جويلية لمناقشة أطروحة جامعيّة هناك فزوّدني بالبنّ الذي احتملته من صنعاء إلى أبو ظبي ومنها إلى وهران قبيل مطلع شهر رمضان بعشرة أيّام... وإنّي أسجّل بكل فخر واعتزاز، وذلك انطلاقاً من تجوالي في أقصى أنحاء الأرض عبر قارات أربعٍ، وبعد أن طعِمت من موائد الملوك والرؤساء والأمراء والكبراء، أنّ المائدة الجزائريّة من أفخر الموائد وأغناها وأشهاها في العالم كلّه، وللجزائريّين أن يفتخروا بأطباقها الافتخار اللاّئقَ بها، ولكنّنا لا نكاد نجد من الجزائريّين مَن يروّجُ طعامَ بلاده، حتّى إنّ أحد الجزائريّين فتح مطعماً بلندن يقدّم فيه الأطعمة الجزائريّة في حقيقة الأمر، ومنها الكسكسيّ اللذيذ العجيب، غير أنّه يأتي ذلك باسْمِ مائدة منسوبة إلى بلد عربيّ، وذلك لانعدام وعيه، واعتقاده أنّ المنتوج الوطنيّ من الطعام لا يرقى إلى مستوى الإشهار له، والتعريف به بفخر واختيال!... وعلى أنّ هذا الحديث قد يسيل لعاب القارئ الصائم فلأُمسِكْ أَوْيةً إليه، أي إشفاقاً عليه!... ما هي البرامج التلفزيونيّة التي تفضّلون مشاهدتها في هذا الشهر المبارك؟ من الصعب على مَن كان في سنّي ودرجتي البسيطة من العلم والثقافة على كلّ حال، أن يُرضيه شيءٌ مما تقدّمه القنوات التلفزيونيّة التي تجنح، في جملتها، إلى الإسفاف العامّيّ، وتُؤْثر، قاصدةً أو محرومة، الابتذالَ! فكثيراً ما أشاهد عملاً يدّعي أصحابه أنّه كوميديّ مضحك فأُشفق على ممثّليه، وأكاد أبكي للمستوى المنحطّ الذي يقعون فيه من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون! وتلفزتُنا الوطنيّة لا تكاد تتقدّم خطوة حتّى تتقهر إلى الوراء خطوات! وبرامجها تحتاج إلى دراسة متخصّصة، نفسيّة وثقافيّة واجتماعيّة، لكي تقترب من رضا المشاهدين المستنيرين. وإنتاجنا الإعلاميّ الثقافيّ مفتقرٌ إلى تخصيص مسابقات وطنيّة قاسية وصارمة بالقياس إلى اختيار النصوص، والمواضيع، والممثلين... وما أكثرَ الأقطارَ التي كانت متخلفةً عنّا، فأمستْ متقدّمةً علينا، ونحن لا نكاد نزيد على شراء البرامج التي قد لا تليق بتقاليدنا الثقافيّة والاجتماعيّة، وحتى السياسيّة، فنُقحمها في برامجنا، للمشاهد الجزائريّ إقحاماً!... وأمامَ هذا... أليس من حقّي أن أختارَ مشاهدةَ مقابلاتٍ في كرة القدم الأوربيّة إذْ باتتْ كرتنا تحتضر ولا مِنْ مُحْيٍ صَريخٍ!...وإذْ باتتْ يتيمتُنا تقدّمُ برنامجاً واحداً فتمرّره في ثلاثِ قنواتٍ ولا تخجل من ذلك ولا ترعوي! كيف كانوا ينظرون إليك بصفتك جزائريّاً، وعضوَ لجنة التحكيم في أكبر مسابقة للشعر الفصيح على الإطلاق؟ إنّ العاقل حين يُدفَع إلى بلدٍ غير بلده، ولو كان بلداً شقيقاً وصديقاً، عليه أن يحاول تمثيلَ بلاده تمثيلاً طيّباً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فيكون سفيراً دون اعتمادٍ سياسيّ رسميّ، لأنّ أيَّ هفوة يرتكبها قد تحسب على الشعب كلّه الذي ينتمي إليه... من أجل ذلك حاولت أن أعطي صورة طيبة، جَُهْدي، عن الثقافة الجزائريّة التي النقدُ الأدبيّ أحدُ مكوّناتِها الرصينة، ومن خلال ذلك اندهش كثيرٌ من الناس لمستوى اللغة العربيّة في الجزائر حيث لم أكنْ إلاّ متكلّماً عَيِيّاً بكِيّاً على الرغم من إعجاب كثير من الأصدقاء بلغتي، وإِخالُ أنّ في الجزائر من النقّاد من يفوقونني معرفة وبراعة واطّلاعاً، كما أنّ فيها من فقهاء العربيّة من يَجُبُّنِي جَبّاً، ويَهُذُّني هذّاً! ولكنْ ليس قاعدةً أن يظهر في الْمَآقِط الفاضلُ على المفضول في كلّ الأطوار! وقد لاحظ الدكتور علي بن تميم بأنّي أحييت استعمال المفعول المطلق الخاصّ بنظام الأَسْلَبة في اللّغة العربيّة، فعوض أن يقال، مثلاً: "أحبّه جدّا"، أو "أحبّه كثيراً" يقال: "أُحِبّه حُبّاً". وابتدأت باستعمال بعض الأسجاع على سبيل الإحماض وملاطفة المشاهدين بمخاطبة الشاعر الموريتاني أبو شجّة قائلاً: "إنّك لَتشُجّ الشعر شجّاً، وترُجُّه رجّاً..."، فطارت هذه الكلمة في الآفاق، وردّدها خلق عظيم، فأصبحتُ أخاطَبُ بها حيث أتّجه في الأسواق والمطارات... فاستلطف الناس ذلك وطلبوا إليّ أن أسجع كلّما أُعْجبتُ بنصّ شعريّ، وقدّمت احتفاليّة سجعيّة في الحلقة الختاميّة التي كانت طبيعتُها تقتضي الملاطفة... وشيئاً فشيئاً أصبحت "مُفتيا" لغويّاً، إلى درجة أنّ أحد الإعلاميّين في التلفزة المصريّة الرسميّة، وهو الأستاذ محمد منير، طلب إليّ أن أكتب له نصوصاً عن اللغة العربيّة يقدّمها برنامجاً في إحدى القنوات الخليجيّة... كما طُلب مني أن أكتب بحثاً لغويّاً شهريّاً، بعنوان "اقرأ" في مجلة "شاعر المليون"... والحديث في هذا الشأن طويل، ولا أريد أن أثقل به إحساس القرّاء، لأنّ الحديث عن النّفس للآخرين من أثقل ما قد يغمّ الناس غمّاً، ويهمّهم هَمّا! والشكر، بعدُ، للصديق الأستاذ رابح بوكريش الذي فكّر في أن يداعبني بهذه الأسئلة اللّطيفة الطريفة، كما أَزْدَجِي الشُّكور الحميم لجريدة المستقبل الغراء التي لم ترحّب بنشر هذا اللقاء فحسب، ولكنّها طلبت إليّ أن أكتب عموداً أسبوعيّاً لقرّائها، كما كنت أفعل ذلك ذات يوم... فهل أستطيع تلبية هذه الدعوة الكريمة، ووقتي يتحكّم فيه غيري...!