كتبي المبعثرة وأوراقي المبثوثة هنا وهناك كانت خير صورة معبرة عن أفكاري وحالتي النفسية البارحة، لقد جعلت لحياتي قيما ومبادئ صرت أعدها ركنا من أركان عقيدتي، ولكن كنت أقع دائما ضحيتها وتدفعني غاليا، وغالبا ما تذكرني بالمتنبي الذي قتله بيت من نظمه.. ومن هذه المبادئ: افعل الخير، فإن لم تستطع فلا تفعل شرا.. ولا تقل لشخص قصدك لمصلحة: "لا"، وأنت قادر عليها. وكم خسرت أموالا ووقتا وماء وجه مع أشخاص لم يكونوا أهلا لمكرمة، فمنهم من رأى في ذلك سذاجة مني ومنهم من رأى نفسه ذكيا وهلّم جرا... وحصل أن قصدت مرة أحدا من الذين كانت لي يد في "وصوله" وتحسن حاله، ليس لمصلحة شخصية ولكن من أجل إنسان بسيط جار عليه الدهر، ولصاحبنا إمكانية التخفيف من محنته... فصدّ الباب في وجهي بجملة بسيطة: "ليتني أقدر" ولسان حاله يقول عكس ذلك... وبينما أنا في متاهات الفكر متعجبا من طبع البشر، متأسفا على ما فقدناه من مروءة ومبادئ كان الفضل لآبائنا في غرسها شجرة طيبة تؤتي أكلها في تربيتنا، انتشلني صديق من سبحاتي قائلا: "كم سفينة ملح غرقت من أسطولك؟"، فابتسمت ودعوته لفنجان قهوة ورحت أسرد على مسمعه قصص ما آلت إليه أخلاقنا ومجتمعاتنا التي كان يضرب بها المثل في الوفاء والإخلاص والتضحية من أجل الأخوة والصداقة والمبادئ، فابتسم وقال: "أراك مازلت تعيش على المعلقات، والسموئل، والرعيل الأول من الصحابة والصالحين، وسأزيدك هما وحسرة إذا قصصت عليك ما حكاه لي شخص التقيته ذات يوم صدفة قرب بحيرة زرزر على مشارف الشام. فقلت: "هاتها". قال: "صديقان حميمان عاشا في إحدى مدن العرب في القرون الوسطى، وكان كل منهما يحب صاحبه ويؤثره على نفسه، وهما من أسر ذات شأن وغنى وحسب.. شاء اللّه تعالى أن يتوفى والد أحدهما وكان تاجرا من أعيان المدينة، وبوفاته عمل ولده على إرجاع أمانات الناس وتسديد الديون ومصاريف الجنازة وغير ذلك، مما أدى إلى نفاذ ما لديه من أموال وافتقاره، ولم يكن خبيرا بتجارة والده، ومرت عليه أيام عصيبة قاوم فيها همومه بالسهر ومحاولات الخروج مما هو فيه، وفي ليلة قالت له والدته في لفتة إلى مساعدته: "عليك بصاحبك، فبينكما من الإيثار والوفاء ما يدفعه إلى عونك"، وفي صبيحة اليوم الثاني، عمل بنصيحتها وتوجه إليه، استقبلته الجارية وانتظر ردها بعد أن دخلت لتستأذن، وبدل أن تدعوه إلى الدخول، أغلقت الباب في وجهه، فانسدت عليه الدنيا وهام في البراري يتأمل بحاله وكان جالسا على تلة ينظر إلى مدينته، وإذا بثلاثة رجال مروا به وعرّفوه بأنفسهم: انهم من تجار مدينة سبأ، ثم سألوه عن تاجر من مدينته كان بينهم وبينه مواعيد وقد تخلف عنها وأخبروه باسمه، فأنبأهم أنه والده وأنه قد توفي، فحزنوا عليه حزنا عظيما، ثم دعاهم إلى داره، وما إن وصلوا أخبرته والدته أن امرأة متنقبة بنقاب لم تنزعه عنها تنتظره في الدار تريد محادثته، وحين التقى بها، أخرجت من كيس معها بعض المرجان المذهب وقالت: "إن والدك كان يشتريها مني"، فأخذ إحداها وعرضها على تجار سبأ وبين العرض والطلب عرف إحدى وسائل البيع عند والده.. وهكذا بدأت تجارته وتقدمت بين الشراء والبيع مع تجار سبأ وغيرهم حتى صار من أعيان تجار المدينة خلال سنة، وفي يوم تذكر صاحبه وقصده زائرا واستقبله في هذه المرة، وفي حديثهما سأله صاحبه عن عمله، فلم يخبره عن التجارة، إنما قال: "إنني أنظم الشعر"، فقال له: "اسمعني شيئا من شعرك"، فقال: صحبت قوما لئاما لا وفاء لهم كانو يجلونني مذ كنت رب غنى يدعون بين الورى بالمكر والحيل وحين أفلست عدّوني من الجهّل ثم سأل صاحبه بدوره: "وماذا فعلت أنت؟"، فقال: "أنظم الشعر كذلك، فقال له اسمعني... فقال: "أما الثلاثة قد وافوك من قبلي أما من ابتاعت المرجان والدتي وما طردناك من بخل ومن قللِ ولم تكن سبأ إلا من الحيل وأنت أنت أخي بل منتهى أملي لكنّ عليك خشينا وقفة الخجل فلما انتهى صديقي من سرد القصة التفت إليّ ضاحكا: "ما قولك؟" قلت: "عليك يا دنيا السلام، ليتك لم تزرني".